Al-Quds Al-Arabi

انتصار النسيان

- ٭ روائي من مصر

تبــدو الذاكــرة كتابا مفتوحــا يمتلئ بالســطور والصفحــات منذ الولادة، ومع التقدم في العمر تهلّ على صاحبها بالحنين والألم. لا ينتبه ولا يســتطيع أي إنســان أن يختار ما يود أن يتذكره يوما ما، وما لا يريد، ويســاعده النســيان الــاإرادي على تأكيد خدعة أن لا شيء باقٍ بينما لا شيء ضاع .

كثيرا ما سُــئلت عن الذاكرة والنسيان، وعلاقتها بي كأديب وقلت إن ذاكرتي هي النســيان، فأنا على يقــن من أن كل ما رأيتــه وأحببته، أو لم أحبه كامن في اللاشعور ينتــــظر الفرصة ليظهر. هذه الفرصة لي كأديــب هي الحاجــة إلى موضوعــات قد تكون أجمل، أو حتــى أقبح مما حولي الذي بلغ فيه القبح مــداه، وصار أليفــا، فأنــا لا أكتب إلا وقــد صار ما نسيته يملأ الفضاء أمامي، طالبا الوجود. وإيماني كبير بأنه لا يضيع من ذاكرتك شــيء إلا ما ليس لك رغبة فيه.

الرغبــات المكبوتــة كمــا قــال فرويــد تقفــز من اللاشــعور إلى الفضاء، حين يراودك الحنين إليها، كمــا أنها هــي ليســت عــدوا لتفاجئك بمــا لا تريد، فالعلاقــة بين الشــعور واللاشــعو­ر ليســت علاقة عــداوة، حتى الكوابيس هي إزاحة للخوف رغم أنها تخيف. أذكر وأنا طفل أن طلبت من أبي أن يشــتري لــي «بيجامة» ذات لــون معين، ويومهــا أخذني في حضنــه وقال لي أن انتظر حتى نهاية الشــهر، حين يتقاضي راتبه. نمت وفي الحلم رأيت نفســي أركب الترام وأعطي للمحصل ثم التذكرة، وكانت التذكرة وقتها بثمانيــة مليمات، ويعيد إليك المحصل مليمين في صورة ورقة صغيرة تحتفظ بها، وكنا نســميها البواقــي، وحــن يصبــح لديك أربــع منهــا تدفعها للكمســاري ثمنا لتذكرة جديدة. أذكر أنه في الحلم أعطاني المحصل البيجامة التي تمنيتها بدلا من ورقة البواقي. مرة ثانية وأنا أكبر قليلا وكنت أجتهد في معرفة اللغــة الإنكليزية، أنني حلمــت حلما جميلا، وهــو أني أقف بــن جماعة مــن الأجانــب أحدثهم بالإنكليزي­ة حديثا طويلا. لقد سبقني اللاشعور في تحقيق ما أريد. لم أكن قرأت كتاب «تفسير الأحلام» لفرويد، ولم أكن عرفت به. قرأته بعد ذلك وأنا طالب في الجامعة، وكنت أحيانا أضحك فكثير منه حدث معي. آمنت بأن النســيان ذاكرة تعيد إليك ما تحبه. لا تتذكر الســيئ إلا إذا رأيت صاحبه أمامك، أو أتي أحد بســيرته معك، وهنا يكون الإدراك بالعقل أكثر مما هو بالشــعور، فســرعان مــا تبتعد عــن مصدر الذكــرى الأليمــة، أو تطلب ممن ذكــرك بها الانتقال إلى موضوع آخر.

ذاكــرة المبدع تأتي مــن النســيان، يتوقف المبدع عن الإبــداع ليــس لقلة ما يجــد مــن موضوعات أو بشــر، لكن لشعوره أحيانا باللاجدوى، أو لتعرضه لمحن مثل الســجن أو الاعتقال. غير ذلك فكله ذاكرة للنســيان. حتى قصص الحب الفاشــلة، رغم ثمنها الروحي الباهظ للمبدع أو المبدعة، تعود لتتجسد في الإبــداع. وكما قلت مرة إن الإبداع لا يعرف الانتقام، بل يعرف الغفــران، فتجد المخطئ فــي الحياة صار في الرواية مجنيا عليه، بينما كان الكاتب أو الكاتبة هو المجني عليه في الحياة.

هكذا يقيــم المبدع قصورا من الجمــال الُمفتقد في الحياة. أبشع ما يواجه الذاكرة هو العمل السياسي ورجالــه، خصوصا إذا كانوا فــي الحكم، ولم يأتوا أبدا بشــيء جميل، وجعلــوا الحياة ســوداء حول شــعوبهم. هنا يكون النسيان دواء، وهنا لن يحتاج المبــدع ليقظة اللاشــعور. وإذا أعادهم فيكونون في الرواية، أو القصيــدة أو اللوحة الفنية علامات على مثلهم فــي كل زمان ومــكان، لكــن إذا أدرك القارئ من يقصــد الكاتب يكون قد انتقل مــن اللاإرادة إلى الإرادة، أي اليقظــة والحديــث المباشــر، وهــو غير

محبوب في الإبــداع. ربما بل المؤكد أن يبحث النقاد عن خلفيــة لما يــرون مــن شــخصيات، ويربطونها بالواقع، وهذا عمل يقلل من قيمة العمل الأدبي، فما أسهل الانتقام بالكتابة، التي هنا تخرج من الشعور إلــى العقل فتقترب مــن المقال، وتبتعــد عن الإبداع. لا أحــب الروايات التي يمكن تفســير شــخصياتها بشخصيات في الحياة، رغم التغير في ذائقة القارئ الآن، وحــب القــراء لهذا النوع مــن الكتابة. اعتبرها كتابة سهلة ومؤقتة وعابرة، مهما لقيت من حفاوة. أن يكــون الديكتاتــ­ور، أو الخائن هو فــان لا أحبه، لكن أن يكون حالة من البشــر يمكــن أن تتواجد في أي مــكان وزمان هو ما أحبه. حتــى من قابلتهم في الحياة، وكانوا انطلاقة لبعض شخصيات رواياتي أضفــت إليهم الكثير من الخيال، فــا يعرف القارئ من هــم، إلا مــن كان قريبا بيننا، لكنــه يعرف أيضا أن الأمــر تجاوز المطابقــة التامة إلى الخيــال. كثيرا ما قلت عــن مصدر بعض شــخصياتي ممن حولي، لكننــي دائما كنت أؤكد على كلمة مصدر، وليس هم الشخصيات بعينها. نسيان السياسيين أمر صعب، لأنهــم يحاصرونــك بأعمالهم ويحتاج المــرء إلى ما يســاعده. وجدت الموســيقى الكلاســيك­ية مساعدا لي كل مســاء بعد نهــار مع الصحف ومــع الأخبار الســيئة، ومــع الحــوارات التــي لا تنتهــي، وترتفع فيها الأصوات بالإدانة أو بالدفاع عن السياســيي­ن. المؤامرات تتم فــي الليل ويحتاج الكاتب إلى مؤامرة بسيطة، أن يسمع الموسيقى قبل أن ينام فينسى.

مؤكــد أن هذا لا يخــص كل الكتّاب لكنه يخصني وارتحــت إليه في حياتي، ولم أترك نفســي للخمور أو المخــدرات التي رأيتهــا حلا مؤقتــا، مهما بلغ من قدرتهــا على حمــل صاحبهــا إلى جبال النســيان. لا يذكرنــي بأي طاغيــة غير الميديــا الآن التي تمتلئ بالأحاديــ­ث والأحــداث، لكننــي أعرف مــا اختاره منها للتعليق أو حتى القراءة، بحكم خبرة الســنين، وبحكــم الحماقــة واســعة الأفــق فــي الميديــا، فلا أتوقــف إلا عنــد مــا أراه جديــدا عليّ مــن معرفة أو خيال. ما معنى تكرار ما تريد أن تلقيه خلف ظهرك؟ تخيــل أنك فجــأة هاجمتك الذاكرة بكل شــيء فهل سيصمد المخ أو الشعور. سيضيع الرأس أشلاء في الفضــاء. ويخيل لي أن الطغاة يرتكبون كل الجرائم مــن أجل ذلك. أن تعيد قراءة مــا تعرفه مؤامرة على الذات، وتكرارا لذكريات غير محبوبة فلماذا ؟ شيء واحد أعاني منه، ولا بــد يعاني منه كل الكتّاب، أنه بعــد الانتهاء من عمل أدبي ترى الدنيا حولك خواء. لم تعــد هناك ذاكرة، ولا ســبيل للاشــعور أن يقفز بذاكــرة النســيان، وتظــن أو أظن أنه لــم يعد هناك مــا أكتبه، لكن لا يمــر وقت طويل إلا وقــد عاد إليك اللاشــعور بما تحب، أو أحببت يوما أن تكتبه. وقد يكون الســبب بســيطا جدا وهو رؤية شــيء ذكرك بأشــياء. هــذا لا يحــدث بســرعة أبــدا، لأن الإبداع الســابق أرهــق الروح رغــم أنه تبتل وصــاة. أجل هو رحلة صعبة وإن كانت جميلة مع الشــخصيات التــي ملأت المعبد حــول الكاتب بالأحــداث. تحتاج الروح إلى الراحة، ومهما طالت فلا خســارة للكاتب ولن تتوقــف الدنيا، إذا مات ولم يكتب غير ما كتبه، فالكتّــاب ملء الحياة. المهم أن تعرف الحياة حولهم بتجلياتها السياسية والاجتماعي­ة قيمة ما يكتبون. للأســف في عالمنا العربــي هذا غير موجــود، لذلك أكتفــي، وأظــن أن الكثيريــن يفعلــون ذلــك، بمتعة الإبداع التي تجعــل كل ما حولي مضحكا ولا معنى له. ســيموت من شــوهوا الحيــاة وســيظل الإبداع علامة علــى حياة أفضــل، وهذا هو انتصــار المبدع الذي لا يهزمه فيه أحد.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom