Al-Quds Al-Arabi

«180 درجة»: إعجاز الفيلم القصير في بلاغة الصورة والمعنى

- القاهرة – «القدس العربي» من كمال القاضي:

ربمــا تســير الســينما الروائية القصيــرة عكس الاتجــاه الذي يؤكد أن مســتوى التميز الســينمائ­ي يتحدد بحجم الإنتاج وأنــه كلما زاد الدعم الإنتاجي ارتفع مستوى العمل الفني، هذه القاعدة ينفيها تماماً الفيلم القصير 180 درجة للسيناريست والمخرج أحمد فؤاد، حيث يُثبت بالتجربة العملية أن الإجادة الفنية يمكن أن تتحقق بأقل الإمكانيــ­ات لو توافرت الموهبة وكانت هناك رؤية حقيقية تعمل على توظيف المفردات الإبداعية والتكنيكية بالشكل الدقيق فتعوض العجز الموجــود في الميزانية من دون المســاس بالشــكل أو المضمون.

معان إنسانية بعيدة

فيلــم 180 درجــة يمثل حالــة ســينمائية فريدة ومختلفة على مســتويات عديدة، أولها أن ما يطرحه الكاتب والمخــرج جديــد بالفعل فهو يذهــب بفكرته إلى معان إنســانية بعيــدة عن المتــداول والمطروق، حيــث ينظر إلى مرحلــة مُنتصف العٌمــر أو ما بعدها باعتبارات تتجاوز الزمن وتتخطى أزمة الشــيخوخة والعُقد النفسية والمرضية وكافة الُمعطلات التي تعرقل حياة البشر وتربطهم بالمستقبل المؤلم المتصور لديهم فــي مراحلهم الأخيــرة، لا ســيما إذا أصابتهم بعض المشــكلات أو الأزمات فأفقدتهم بهجة الروح وقربتهم

من الاكتئاب والوحشة والوسواس وعجلت بنهايتهم إذا ما استسلموا للأفكار المعادية وظلوا أسرى للوحدة والمرض واليأس.

تقتــرب الرؤية التحليلية للفيلــم الروائي القصير الذي يتحدد زمنه في عشــر دقائق فقــط لا غير، هي الأغنــى في تفاصيلهــا ومعانيها من بعــض النماذج الإنســاني­ة ويُمعــن التفتيــش بداخلهــا للبحث عن مواطن التأزم والأرق والخوف وبالفعل يصادف كاتب الســيناري­و والمخرج أحمد فؤاد الكثيــر من الحالات التي تســتدعي التوقف والتركيز، وبحساسية الفنان يتم التســلل إلى داخل كل حالة علــى حدة، وبطريقة هي أقرب إلى التحليل النفســي تبــدأ عمليات البوح والاعتــرا­ف على التوالــي قبل الدخول فــي المرحلة الثانية للفيلم وهي المواجهة.

وبموجــب الاعترافــ­ات الصريحة للشــخصيات الحقيقيــة تتكون الــرؤى وتتبدى المشــكلات فتظهر النواقص التي تُســبب الأزمات، وبالقطع تتنوع في ما بينها وتختلــف تأثيراتها من حالة إلــى حالة، فهناك الأب الذي فقد زوجته وأولاده في حادث ويعيش منذ سنوات أســير وحدته وآلامه، وهناك امرأة تعاني من فوبيــا الأدوار العُليا فتظل في قلــق وفزع كلما تراءى لها السقوط من مكان مرتفع، وأيضاً شخصيات أخرى تعيــش أزمة خريــف العُمر وفق مقاييســها فلا تترك لنفسها فرصة التمتع بما تبقى لها في الدنيا من سنوات أو شهور أو سنين، فهي تعيش فقط لانتظار الموت!

كل هذه النماذج يعرضها مخرج الفيلم في سياقات متقاربــة في معانيها ومنظورها كي يوســع مســاحة الرؤية ويمنحنا الفرصة الأكبر لنرى تفاصيل الأزمات

ونعايشها عبر المساحة الزمنية المقررة، ومن ثم نصبح أكثر انفعالاً بما نراه ونســمعه مــن موجز الحكايات والقصص، وبالقطع نتلقى الصدمات ويحدث التأثير المطلوب قبل الشروع في تطبيق الحلول المقترحة لتلك الأزمات على بينة القاعدة الأساســية وهي المكاشــفة كخطوة أولــى ثم العلاج بالصدمات كوســيلة علمية مضمونة النجاح.

أما عــن كيفية إعمال الصدمات في الحالات المرضية وفق شــروط محســوبة فهذا ما تميز به الفيلم وأدى

إلى نتائج مذهلة، فجميع الشخصيات التي تعاني من أعراض نفسية غير طبيعية وضعوا في ظروف مغايرة لظروفهم وخرجوا يتحدون أنفسهم ومخاوفهم، فمن كانت تعاني من فوبيــا الأدوار العُليا صعدت إلى قمة الجبل، ومن فقد أهله وذويه في حادث وبات يخشــى الخطر عاد ليمارس هوايته الُمفضلة في التزحلق على الجليد بين الشــباب وهو فوق الســتين من عمره بعد أن هجر الهواية والغواية لسنوات طويلة، ومن عاش حياته يخشــى البحر والصخور دخل فــي التجربة

مجدداً وغاص في عمق العمــق ولمس الصخر والرمل واستنشــق الهواء تحت الماء كأي غواص ماهر يمتلك بين ضلوعه قلباً من حديد.وهكــذا انتهت كل الأزمات والأمراض وعادت حياة المرضى ســيرتها الأولى ولم يعد هناك ما يعوق المســيرة وما يحــول دون التمتع بها ، وهــي التجربة الإنســاني­ة العميقة التي خاضها أحمــد فؤاد كاتبــاً ومخرجاً بمفردة لا يعــول إلا على إمكانياتــ­ه وموهبتــه وثقافته التي قادتــه إلى هذه الفكرة الاستثنائي­ة، وقد تكلف الفيلم الذي تم تصوير معظمة تحت الماء مجهوداً شاقاً واستغرق وقتاً طويلاً في الإعداد والتصوير، لا ســيما أن مشــاهد التصوير كانت أيضاً من إبداع المخرج مــع مدير التصوير هاني فخــري، فضلاً عن المونتــاج الــذي تم بحرفية عالية ليُعطي المعاني المطلوبة في أقصر المشاهد وأقل الأزمنة وهو ما ترجم بلاغة الصورة والحوار بشــكل ملحوظ وعمل على تجسيد الفكرة وانسجامها مع الإطار الذي وضعت فيه.

الخوف من المجهول

كمــا أن عناصــر الإبهار التي تجلت في الموســيقى والإيقــاع ومواقع التصوير أضافــت جماليات أخرى لجمــال الموضوع ذاتــه فبــددت، وهم الخــوف من المجهول الذي يأخذ الشــباب والنضارة والمرح والثقة والتألق ليحل محلهم العجز والكسل والقعود والوهن والضعــف.. إلــى آخر مــا تم نفيه بموجب الرســالة المتفائلة التــي انطوت عليهــا الحالة الكليــة للفيلم المتميز.

 ??  ?? لقطة من الفيلم
لقطة من الفيلم

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom