Al-Quds Al-Arabi

في انتظار بايدن... الانتخابات الأمريكية صناعة الوهم

- هاني بكري٭ ٭ كاتب وإعلامي مصري

في المسرحية الشهيرة « في انتظار غودو» للكاتب الإيرلندي صمويل بيكيــت، ينتظر مجموعة من الناس على قارعة الطريق شــخصا غامضا يدعــى غودو، ويحلــم كل منهم أن غــودو هذا ســيغير حياته للأفضل، المفارقــة في المســرحية أن غودو لم يحضــر أبدا، وبالتالي فإن مســار حياة هؤلاء التعساء لم يتغير، وظلت ظروفهم للأسف على ما هي عليه.

أتذكــر هــذه المســرحية الآن كلما رأيــت قطاعات كبيرة، ســواء من الدوائر الفكرية والسياسية العربية، أو حتى قطاعات جماهيرية عادية تعول على صعود جو بايدن إلى سُــدة الحكم في الولايات المتحدة، من أجــل تغيير مصائرهــا، بعدما غازل هــذه القطاعات بحديــث مكرر عن دعمه للديمقراطي­ات في المنطقة، ودعمه لملفات حقوق الإنسان المتردية، وغيرها من الإكليشــي­هات الثابتة الثاوية دائما في خطابات المرشحين للحكم في أمريكا.

هــذه القطاعــات التي صدقت هــذه الوعود، بدأت مبكــرا بالتهليل، والمناداة باســتغلال هذه الفرصة لدعمه، من أجــل منع صعود الرئيس الحالي المتصف بالرعونة، لفرصة حكم ثانية.

والحقيقة أنه في عالم السياسة الأمريكية لا شيء يتغير.

بوصلة الربح والمكاسب

أمريــكا وبلا جدال هــي خليفة القــوى الاســتعما­رية التاريخية في المنطقــة والعالــم، الوجــه المتلون، والمتخذ عشــرات الصــور والأنماط حســب بوصلــة الربــح والمكاســب، ودائما مــا وصفت السياســات الخارجية الأمريكية أنها سياســة ما بعــد الامبريالي­ة، التي تهدف إلى الســيطرة على مقــدرات الأمور فــي العالــم الثالث. نمــوذج الكاوبوي الأمريكــي الــذي يتعامل بجلافة شــديدة، وثقة زائدة فــي النفس، ولا

يعنيه في المقام الأول سوى مصلحته الشخصية.

فالنظم والإدارات الأمريكية المتعاقبة سياســتها واحدة، وإن تغيرت خطاباتهــا المتعــددة، والمحصلة النهائية واحدة أيضــا، فما بين رئيس هادئ مثل كلينتون، ورؤســاء شــديدي المراس كبوش الأب والابن، أو رؤســاء أبدوا مرونة كباراك أوباما، فإن السياسة الأمريكية الخارجية فــي التعامل مــع أزماتها ظلت على وتيــرة واحدة، ولم يســتطع رئيس واحد الاصطدام بترسانة المؤسسات الأمريكية العميقة.

أما الرئيس الحالي دونالــد ترامب، فإن خطيئته الوحيدة أنه أخرج كــرش السياســة الأمريكيــ­ة إلــى العلن، وفضــح ما خفي مــن أضابير المؤسسات الأمريكية برعونة شديدة، أحرجت الدبلوماسي­ة الأمريكية، باظهارها راعية للديكتاتور­يات الغنية في المنطقة، كما أن ترامب تعامل مــع بعضها وكأنه مندوب مكتب للعلاقــات العامة، وليس رئيس دولة من المفترض أنها عظمى. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن؛ هل بصعود مرشح كجو بايدن ستتغير ملامح السياسة الأمريكية؟ الاجابة العفوية والمباشر، لا، للأسباب التالية: أولا: جــو بايدن هو مرشــح الديمقراطي­ين، وحتى وقــت قريب، كان يوصــف الحــزب الديمقراطـ­ـي أن ولاءه لإســرائيل ولاء أعمــى، وغير مشــروط، فضلا عن تمتع اللوبي الصهيوني بعلاقات واســعة ومعقدة مع غالبية رؤســاء الحزب، وناهيك عن أن السياسات الأمريكية بشكل عام ثابتة تجاه إسرائيل، فإن غالبية المكاسب السياسية التي حصلت عليها إسرائيل طوال تاريخها، كانت من جانب رؤساء ديمقراطيين.

ثانيا: مغازلة جو بايدن لكســب تعاطف الكتلة المسلمة في الولايات المتحدة هي من باب الاستهلاك الانتخابي؛ لأن حالة الإسلاموفو­بيا هي جزء مهــم وأصيل من تكويــن العقلية الصانعة للسياســات الأمريكية خصوصــا؛ والغربية عموما. جزء تم صنعــه وتغذيته عبر عقود طويلة في الأكاديميا­ت والدوائر البحثية المعنية بالشــأن العربي والإسلامي،

وليــس أدل على ذلــك؛ من اعتمــاد أروقة الحكم في أمريــكا أطروحات برنار لويس؛ وصمويل هنتغتون؛ وميشــيل فوكويامــا؛ على تعصبهم الظاهر، كمنارات استدلال في التعامل مع الدول والحركات الإسلامية -بلا تفريق بين معتدل ومتطرف-، وهو أمر مؤسف؛ لأنها كتابات غير موضوعية في كثير من طروحاتها، ومع ذلك تتعامل معها عقلية صانع القرار الأمريكي كمسلمات بديهية. وهو ما سيعجز بايدن، أو غير بايدن عن تغير هذه السياسة تجاه المسلمين، وتكتلاتهم بشكل لاحق وفوري.

ثالثــا: يبشــر بايــدن فــي خطاباتــه الانتخابيـ­ـه المتكــررة، بخطاب أشــد حزما مع الكتــل الحاكمة في المنطقة العربيــة، وهو كلام من باب الهــراء الانتخابــ­ي، إذ أن أمريكا تواجه نقصا في المــوارد المالية لديها، وتســتعيض عنه مــن خزانة بعــض هذه الــدول المفتوحة بــا قيد ولا شــرط، فهل ســيتخلى بايدن عن حالــة البراغماتي­ة الأمريكيــ­ة، التي لا يعنيها سوى حسابات الأرباح وعوائدها، من أجل كسب ود وتعاطف قطاعات جماهيرية غاضبة على تلك الحكومات والأنظمة، بلا أي منفعة فعلية لخزانة الدولة الأمريكية؟

رابعا: يقول إنه في حال فوزه؛ سيعمل على إسقاط الرئيس التركي أردوغان، وهو قول شــديد الســذاجة لأنه ـ ســواء اتقفت، أو اختلفت مع السياســة التركية ـ فإن تركيا حليف قوي وفعال لمؤسسات الدولة الأمريكية العميقة، كما أنها تجيد اللعب على طاولة صنع القرار العالمي، والأهم من ذلك أن تركيا لديها تاريخ عدائي طويل مع الدولة الروســية، وهو ما جعل تركيا في حالة دلال دائم سواء من أوروبا أو أمريكا، حتى تظل قائمة كحائط ســد قوي يحول دون التغول الروسي في المنطقة، فإضعاف الجانب التركي، من شــأنه صعود نفوذ وهيمنة روســيا في المنطقة، ومقاربتها لتخــوم أوروبا، وهو ما لا تريده أمريكا، ولا الإتحاد الأوروبي يريد اســتعادة التواجد الروسي في الشــرق الأوربي، الذي تخلــص منه عبر عقــود بصعوبة بالغــة. هذه النقطة تحديــدا يدركها صُنــاع القرار التركي، ويجيدون التعامل معها في تحقيق مكاســب من الطرفين.

للأســباب سالفة الذكر؛ فإن بايدن إذا صعد إلى البيت الأبيض فإنه لن يتخلى عن حليف قوي، واستراتيجي كتركيا في المنطقة، واستبداله بخصم تاريخي صاعد مرة أخرى على مسرح الهيمنة العالمية.

المؤسسات الأمريكية

والسؤال الآن هل فرص بايدن للفوز بالحكم أعلى من ترامب؟ نعــم، وإلى حد بعيد فإن ترامب لن يحظى بفرصة ثانية، وجو بايدن إذا حالفة الحظ سيكون الرئيس رقم ستة وأربعون في تاريخ الولايات المتحــدة. فالمؤسســا­ت الأمريكيــ­ة تريــد رئيســا هادئــا ومتزنــا، لأن المســاحة المتاحــة لأي رئيس أمريكي هى في آليــات التنفيذ فقط، وهي أســوأ مساحة تم استغلالها من جانب الرئيس الحالي، لأنه استخدمها بفجاجــة، ووضوح زائد مُحرج لصناع القــرار هناك ومُحرج أمام الرأي العام العالمي.

لكن يظل الســؤال الأشــد إلحاحا؛ هل ثمة مكاســب نوعية إذا صعد بايدن؟

الحقيقة أنه لا جديد في جراب السياســة الأمريكية بشــكل عام، في حال فوزه أو خسارته، وأن المراهنة على تغيير ولو نوعي هي سذاجة.

ســتظل السياســة الخارجية الأمريكية ثابتة، ســواء في المنطقة أو خارجها، وســتظل ملفات نقاط التماس الملتهبة في العراق، وســوريا، وافغانســت­ان، وإيران وغيرها كما هي، كما ســتظل خريطة تحالفاتها مع الأنظمة في المنطقة بلا اســتثناء ممتدة، ما دامت مصلحة الكاوبوي الأمريكي قائمة.

أما المنتظرون لغودو؛ فإنه سيطول انتظارهم لضيف لن يأتي أبدا.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom