Al-Quds Al-Arabi

فيضان عبدالناصر

- *

مع مساء 28 سبتمبر/أيلول 2020، تكون قد مرّت خمســون ســنة بالتمــام والكمال على رحيل جمال عبدالناصر، الذي اكتسب اســمه حصانة مذهلة ضد تقــادم الزمن، وقــد تعاقب علينا من بعده عشــرات القادة، ســواء في قصور الحكــم، أو في حركات الشارع السياســي، ومن دون أن يطاول أحد قامة عبد الناصر، الأكثــر مهابة فــي التاريخ العربــي الحديث والمعاصــر، وكانت جنازة رحيله، اختصارا بليغا لدوره المفرط في اســتثنائي­ته، فقد كان فقهاء المســلمين الكبار يختلفون في مســائل، وكلما احتدم الجــدال بغير اتفاق، كانوا يختمون بما معناه: دعونا نحتكم إلى الجنــازات، فالجنازة عندهم هــي معيار القيمــة الباقية، وكانت جنازة عبد الناصر هي الأكبر في تاريخ البشر، بإطلاق العصور، ولم تسبق ولا تكررت لأحد من بعده.

وشــاءت أقدار الله أن تجدد العبرة، وأن تحيي على طريقتها ذكرى رحيل عبد الناصر الخمسين، وجاءت إشارة السماء بمدد من مياه النيل، لم يسبق قدومه منذ مئة سنة مضت، وفي صورة فيضان عــارم هــادر، اجتاح أغلب ولايات الســودان مــن المنبع الإثيوبــي، واجتاح مناطــق كثيرة فــي إثيوبيا نفســها، وبدأت تباشيره تصل إلى مصر في ذكرى رحيل عبدالناصر، ومن دون أي خطر كبير متوقع على ســامة مصر والمصريين، بسبب بركة الســد العالي، الذي أنشــأه جمال عبدالناصر، وبسبب «بحيرة ناصــر» من خلف الســد، وهي أكبــر بحيرة صناعية فــي الدنيا كلها، يبلــغ طولها 500 كيلومتر، وأقصــى عرضها 35 كيلومترا، ومساحتها 6216 كيلو مترا مربعا، وعمقها 180 مترا )590 قدما(، وســعتها التخزينية نحــو المئــة والثمانين مليار متــر مكعب من المياه، أي أكثر من ثلاثة أمثال نصيب مصر المقرر ســنويا )55.5 مليار متر مكعب( من ميــاه النيل، فوق طاقة تخزين إضافي في بحيرات «مفيض توشــكى» المجاور، وبوســعها تخزين 56 مليار متر مكعب من الميــاه، قد تزيد حتى حاجز المئة مليار متر مكعب، ويتســع أسفل «بحيرة ناصر» لاســتيعاب كميات الطمى الوارد مع مياه النيل لمدة 500 سنة، وفي العام الماضي، كان السد العالي وبحيراتــه قادرا علــى صد أكبر فيضان للنيل جاء من خمســن ســنة ســبقت، وفي موســم الذكرى الخمســن لرحيل صاحب الســد العالي، جاء الفيضان الأعظم بما لا يقــاس، ومن دون أن يشــعر المصريون بذرة قلق، بل بالبشر والســرور والامتنان لله ولســدهم العالي، الذي جاء في طليعة إحصــاءات تقرير الهيئة الأممية للسدود والمشاريع الكبرى، ووصف بأنه أعظم مشروع هندســي عالمي فــي القرن العشــرين كله، والأكثــر نفعا للجنس البشــري، وقد بني على هيئــة طائر عملاق، يفــرد جناحيه على جانبــي النيل، بعــد تحويل مجراه، يزيد حجمــه أكثرمن 18 مرة علــى حجم الهرم الأكبر، ويتدفق من بواباته المحكمة ما قد يصل إلى 240 مليون متر مكعب في اليوم، مع إدارة العمل بسلاسة، لا تســمح بتجاوز ارتفاع المياه إلى أكثر من 180 مترا خلف الســد، المحمي عســكريا حتى ضد القصف النووي، وهــو ما غيّر حياة المصريين تماما، عبر تاريخهم الألفي كأقدم دولة في العالم، فقد كان المصريــون عرضة لغضب النيل حــن يفيض، ولنقمته حين يغيــض، كان الفيضــان مدمرا للحرث والنســل والــزرع، وكان الغيضــان ينتهــي بالمصريــن إلى فنــاء وذبول ســكاني، وإلى مجاعات مرعبة، يأكلون فيها الفئران والقطط، بل لحوم البشر، وفــي مرويــات الزمن المصري الممتــد، تجد فيضا مــن حكايات ومآســي المصريين، الذيــن كان يتحكم بهم النيل ويســتعبده­م، ويذهب بغالــب فيضانه إلى البحر المتوســط عند نهايات فرعي دمياط ورشــيد، ولا يستبقي لحياة الناس سوى ما لا يزيد على خمســة مليارات متر مكعب من المياه العذبة ســنويا، بينما تقدر مصــر اليــوم على حجز نحو خمســة أمثــال نصيبها الســنوي المقرر مــن مياه النيل، فــا تتأثر بالفيضــان ولا بالغيضان، فقد جفــت منابع النيل أو كادت، وعلى مدى ثماني ســنوات متصلة بــن عامي 1979 و1987، عانت فيهــا إثيوبيا عند منابع النيل من تصحر مهلك، بينما لم يشعر المصريون عند مصب النيل النهائي بشــيء مختلــف، ولــم يعانوا لحظــة جفــاف مائي، فقــد قلب المصريــون معادلة النيل القديمة، وصاروا أســيادا عليه لا عبيدا لتقلباته، صاروا في وضع التحكم الكامل بحركة مياه النيل، إلى ما شاء الله، وبفضل سد عبد الناصر العالي.

وبالطبع، لم يخترع عبدالناصر فكرة مشــروع الســد العالي، ولا اختــرع من قبلهــا فكرة تأميم قناة الســويس، ففكرة الســد قديمة جــدا، كان أول من أشــار إليهــا عالم البصريــات العربى البارز الحســن بــن الهيثم )المتوفى عــام 1029 ميلاديــة(، وقام بتحديثهــا مهنــدس مصــري من أصــل يونانــي اســمه أدريان دانينــوس، وقدمهــا إلــى قــادة ثــورة 23 يوليو/تمــوز 1952، والتقطها عبد الناصر، وجرى تكليف شركة ألمانية بالتصميمات الأولية عام 1954، ثم كانت عقبات البحث عن تمويل للمشــروع، لم تكن تقدر عليه خزانــة مصر الخاوية وقتها، وعرضت أمريكا وبريطانيــ­ا التمويــل، ثــم ســحبتا العــروض كلها، بعــد رفض عبد الناصر المســاومة علــى مبدأ تنويع مصادر ســاح الجيش المصــري، ورفضــه لعقــد أي اتفاق تســوية أو تطبيــع مع كيان الاحتــال الإســرائي­لي، وانتقــل التضييق والحصــار إلى البنك الدولي، الذي عرض تمويل ربع تكلفة المشروع، واشترط مراقبة إيــرادات ونفقات الموازنــة المصرية، وهو ما رفضــه عبدالناصر تمامــا، ثم خاض ملحمــة كبرى هي تأميم قناة الســويس، الذي كان حلمــا للوطنيين المصريين من قبله، وهــزم العدوان الثلاثي عام 1956، وبما وســع من الموارد المالية المتاحة، وجعل مشروع الســد العالي أطول وأعذب ملاحم عصر عبدالناصر، وقد وضع حجر أســاس الســد في 15 يناير/كانون الثانــي 1960، وجرى افتتاحــه مع محطاتــه الكهربائية فــي 15 ينايــر 1971، كان عبد الناصر قد رحل فجأة قبلها في 28 ســبتمبر 1970، وهو في عمر الثانيــة والخمســن، لكنه ترك لنــا هرم مصر الباقــي على مدى السنين والقرون، ليس هرما لدفن الموتى، بل هرما لحياة لا تفنى إلى أن يرث الله الأرض .

وعلى مدى خمسين سنة مضت، كان عبدالناصر شاغل الناس جميعا، شــن عليه أعداء الأمة ورجعيوها العشــرات من حملات

إبادة اسمه ورســمه، وظلوا يحاربونه مع أمريكا وإسرائيل إلى اليوم، ومن دون أن ينجحوا، إلا في تخليد ذكراه، وجعله أيقونة للحالمــن بالثــورة والتغييــر والنهوض وخلاص الأمــة، وهو ما يفســر اللجوء التلقائي الدائم لصور عبــد الناصر، ورفعها على أعناق المنتفضين فــي ثورات الغضب الجديــدة المتلاحقة، وهي موجــات تنهض ولا تحكم، بل تحكم الثــورة المضادة من تيارات اليمــن «الثروي» أو جماعات اليمين الديني، وعلى نحو ما جرى بعد ثورة الشعب المصري في 25 يناير 2011، لكن الحلم في مصر وفي غيرها، ظل لصيقا باســم عبدالناصر أكثــر من غيره، ليس على ســبيل اجترار الماضــي، فما مضى لا يعود، بل على ســبيل تكريس القيمة، فقد انتهت مواريث كل المعادين لعبد الناصر إلى بوار تاريخي أكيد، وإلى دفع الأمة وشــعوبها إلى دمار وخراب مفــزع، وظل مشــروع عبــد الناصر القومــي هو الحــل الوحيد الباقــي، بشــرط الوعي بالظروف المســتجدة، واكتســاب قيمة الديمقراطي­ــة مــع قيم الاســتقلا­ل الوطني والثقافــي والتصنيع الشــامل، وأولوية العلــم والتكنولوج­يا وكفايــة الإنتاج وعدالة التوزيــع والتوحيد العربــي، وإعادة بناء المثــال الملهم في مصر أولا، وقد نبّه عبد الناصر في سنواته الأخيرة، بعد هزيمة 1967، إلى أهمية التحول الديمقراطي والتعددية الفكرية والسياســي­ة، وكانت فضيلة «التصحيح الذاتي» لأخطاء وخطايا التجربة، من أهم ميزات تكوين عبد الناصر القيادي بالغ التفرد، ولم يكن في سجون مصر السياسية حين رحل عن عالمنا، سوى 273 شخصا لا غير، كان بينهم جواســيس لكيان الاحتلال الإســرائي­لي، كان الرجل يعيد بناء الجيش من نقطة الصفر، ومن دون أن يغفل عن ضرورة تجديد تجربته كلها، وشاءت الأقدار أن يرحل، من دون أن يكمل حلمه وحلمنا، عبر قيادة جيشه إلى الحرب المقدسة في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، لكن السياسة بعدها، انقلبت على نصر الجيــش وعلى اختيارات عبــد الناصر معــا، وداس الذين «هبــروا» على دماء الذيــن عبروا، وكان ما كان مــن ذل وهوان، لا تجــد بعده الأمة من صوت توقظه في أعماق ضميرها، ســوى صــوت جمال عبــد الناصر، ولا من ســد يحميهــا غوائل الجوع والعطش، سوى ســد عبد الناصر العالي، وفيضان اسم الرجل مع أعلى فيضان للنيل.

كان المصريون عرضة لغضب النيل حين يفيض، ولنقمته حين يغيض، وكان الفيضان مدمرا للحرث والنسل، والغيضان ينتهي بهم للفناء

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom