Al-Quds Al-Arabi

عن الملك فيصل وأزمنة «الحق السيادي»

-

■ للملــك فيصل في قلــوب العرب والمســلمي­ن مكانــة لا يدانيــه فيها أي ملــك ســعودي آخر مــن قبــل ولا من بعد. فقد اقترن اســمه بالثبات على المبدأ في قضية الحق العربي والإسلامي في فلســطين وبشــجاعة الموقف في استخدام سلاح النفــط أثناء حرب رمضان. كمــا كان له، منذ أن كان أميرا شــابا ووزير خارجية نابها في الأربعينيا­ت والخمسينيا­ت، دور معروف في نصرة حركات التحرر الوطني ضد الاســتعما­ر الفرنســي في المغرب العربي. والمعلوم من ســيرته، رحمه الله، أنه كان من أهل العقل والفضل وأنه كان قوي الوعي بخطر المسؤولية التي ينبغي على دولــة أرض الحرمين أن تضطلع بها في القضايا الإســامية المصيرية.

لهــذا لم يكن من المفاجئ أن يصرح الأميــر تركي الفيصل لقناة «سي ان بي ســي» الأمريكية بأن والده كان سيصاب بالخيبة لو أنه علم بعمليتي التطبيع العلني الأخيرتين. وما كان للأمير تركي أن يقول خلاف هــذا، خصوصا أنه لم يعمد من تلقاء نفســه إلى التذكير بمواقف والده المعروفة، وإنما هو اضطر للخوض في هذا الشــأن عندما ابتدرته المذيعة ســائلة: «هل تعتقد أن والدك الملك فيصل كان ســيصاب بخيبة الأمل بســبب توقيع اتفاقية السلام بين الإمــارات والبحرين وإســرائيل بدون مقابل للفلســطين­يين في إطار حل الدولتين؟» فكان الجــواب دقيقا في فحواه أمينا في مغزاه. إذ أيّا كانت قوة توجهات الحكم الحالي في السعودية نحو التطبيع العلني مع دولة الاحتلال الإســرائي­لي، وأيا كانت درجة رهبة الأمراء والشــخصيا­ت العامة في الســعودية من ولي العهد )الذي ذكرت الأنباء المتواترة أنه يتعجل التطبيع العلني في أقرب فرصة وأنه ليس هنالك الآن ما يعوقه عن ذلك إلا اعتراض والده( فإنه لا يســع الأمير تركي أن يهون من الأمر ويقول إن والدي الملك فيصل ما كان ليرى أي سبب للخيبة والخذلان، بل إنه كان سيتخذ موقفا مماثلا لموقفي: أي اعتبار ما فعلتــه الإمارات والبحرين مع دولة الاحتلال مجرد ممارسة لـ«حق ســيادي». فقد أجاب الأمير تركي عندما سئل عن موقفه الشخصي: «السلام مع إسرائيل حق ســيادي للإمارات والبحرين ولا أحد يستطيع أن يعارضهما. كما أنهما لم يتخليا عن إرســاء السلام الدائم والشامل في المنطقة، بل أكدا على ضرورة أن يكون هنالك حــل يأخذ بالاعتبار إقامة دولة فلسطينية، عاصمتها القدس، على أساس مبدأ حل الدولتين.»

يحسب للأمير تركي إذن أنه التزم الدقة في الإجابة. ولكن هذه الدقة أوقعته في مناقضة صريحة، بل صارخة، لموقف والده. وكأن هــذا لا يكفي، فإنه ما لبث أن ناقض موقفه الشــخصي، الذي عبر عنه قبل ذلك بلحظات، عندما أضاف: «الســؤال الذي يطرح الآن هو: كيف سيؤثر ذلك في موقف إسرائيل، لأنها هي الجهة المطلوب منها أن تســتجيب لما طرحه العرب من مبادرات للســام منذ عام 2002 عندمــا قدم الملك عبد الله رحمه اللــه المبادرة التي أصبحت مبادرة الســام العربية. إســرائيل لم تقبل حتى اليوم بالمبادرة واستمرت في أعمال الاحتلال في فلسطين.»

إذ كيف يســتقيم الأمــر بين قــول الأمير تركي، مــن جهة، إن إسرائيل لم تقبل مبادرة السلام العربية )التي أيدتها جميع الدول العربيــة في مؤتمر بيروت( وقوله، من جهة أخرى، إن في وســع الإمارات أو البحرين )أو، بالتالي، أي دولة عربية أخرى( أن تطبّع إن أرادت لأن التطبيع حق ســيادي؟! إذا كان من المعقول والمقبول الجمع بين هذين النقيضين، ففيم تجشــم عنــاء إطلاق مبادرات وإصدار قرارات رســمية في الجامعة العربية؟ وهل بقي من قيمة لمبادرة عمه الملك عبد الله إذا كانت هذه المبادرة الإجماعية ستبقى عرضة لاستثناءات الحق السيادي والتطبيع الانفرادي؟

على أن لتصريحات الأمير تركي، إضافة لما ســبق، دلالة أخرى تتعلق بظاهرة أعم. إنها انقطاع الاتصال بين الأجيال السياســية وانكســار حلقــات الاســتمرا­رية التاريخيــ­ة. ولا تقتصــر هذه الظاهــرة على العالم العربي المنكوب بحكام جدد لم يبلغوا ســن الرشــد السياســي، بل إنها بدأت تطال العالــم الغربي الذي كان من المفتــرض أن تكون آلياته الديمقراطي­ــة ضامنة لاختيار الأكفأ والأجدر والأثبت على المبادئ.

ومــن علامات ذلك أن مــن المؤرخين البريطانيـ­ـن من يقول إن كلا من إدوارد هيث، الــذي أدخل بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وغريمته مارغريت تاتشــر، التي اشــتهرت بالشــدة والحدة في الدفاع عن المصالــح البريطانية في بروكســل، يتململان الآن في قبريهما لفرط ما أظهره بوريس جونســون من التذبذب والتخبط إضافــة للتنكــر لتراث حــزب المحافظــن القائم علــى الواقعية والبراغمات­ية والاعتدال. كمــا أن البرلماني أندرو أدونيس قال في كتاب جديد عن سيرة أرنســت بفين، وزير خارجية بريطانيا من 1945 إلى 1951، إنه لو عاد هذا الزعيــم العمالي اليوم إلى الدنيا فإنه ما كان ليعرف حزب العمال إن رآه…!

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom