Al-Quds Al-Arabi

«برشا» التونسية: من الفصحى إلى العامية

- منصف الوهايبي٭

منذ بضع ســنوات، شاعت أغنية التونســي صابر الرباعي «برشا برشا/ يا مدلل برشــا/ حبك على قلبي تسلل برشا برشــا» ومعها شاعت كلمة «برشا» عند أشقائنا في شــرق البــاد العربية وغربهــا. ومع ذلك بقيت تونســية محلية صميمة، شــأنها شــأن مفردات شــتى تختص بهــا لهجات العرب؛ ســاعدت الأغنية على نشــرها عبر المكان والزمان، ولم تســاعد على امتصاصها أو إحلالهــا محل مترادفاتها عندهم أو عندنا. ومرد ذلك على الأرجح، إلى جملة أمور منها أن الترادف في الألفاظ يحوي كما يقــول ابن الأنباري )القرن الثالــث للهجرة/ 9م( فروقا دقيقة تميــز كلمة من أخرى؛ لعلــة لغوية؛ فاللفظان الواقعان على معنى واحد، يختلــف كل منهما عن الآخر؛ وفيه معنــى ليــس في صاحبه. وربما كان الفــرق من الخفاء والدقة، فيذهــب في الظن أنه مجرد تكرار أو تعداد لغوي ليس إلا. ومثال ذلك «جلس» و«قعد» فالمعنى لا يُعرف إلا بمــا يتقدم الكلمة، ويتأخر بعدها؛ و«جلس» يقال للمتكئ أو الســاجد أو النائم/ فيما «قعد» للقائم أو الواقف؛ على نحو ما جاء في الآية «فَاذْكُرُوا اللَهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُــم» (النســاء 103( والجلوس يكون من الأســفل إلى الأعلــى، ووقتا أو مكوثا أقــل من القعود الذي يكون أطول؛ ولذلك يقال»جليس الســلطان» لا قعيده. وحتى لا يحجزنــي «التــرادف» عما أنا فيه، وأنــا أكتب هذا قاعدا لا جالســا؛ أقول بإيجاز إنه كلمــا تمايــز دالان، وهما يحيلان علــى «مدلول واحد» أو»معنى واحــد» فنحن حيال مترادفــن أو أكثر؛ وبالمقابل فإنه كلما أشــار دال إلى مدلولــن أو أكثر، فنحن حيال تجانس «المتجانس»؛ إن لم نكن حيال إشارتين متميزتين تمتلكان خاصية واحدة.

وعليه فإن «جنيس» برشا التونسية أو مرادفها، في مصر «قوي/أوي» وفي بلاد الشــام «كثير/كتير»’ وفي ليبيا «هلبا» وفي المغرب «بزاف» وفي موريتانيا «ياسر» وعندنا في تونس أيضا ولكنها ليســت مرادفا لـ«برشا» وفي السعودية «مرة» وعند الخليجيــن «وايد/ واجــد» وفي العراق «هوايه» بتســكين الهاء. والســؤال: من أين تتحدر كلمة «برشا»؟ أهي عربية أم أمازيغية، كما قد يقع في الظن. وأبادر غير متريث بأنهــا ليســت أمازيغية أبدا؛ إذ لا وجــود لها عند الأمازيغ في كل بــاد المغرب؛ وإنما اختصت بها العامية التونســية، منذ دخــول العرب إلى افريقيا، أي تونس وطرابلس كمــا كانت تســمى قديما، وهو مصطلــح يوناني قبل أن يكون رومانيا. إذن «برشــا» عربية صميمة، وهذا يتفرع عنه ســؤال ســائغ مقبول: ولماذا تونس وليس سائر بلاد المغرب التي فتحها العرب؟

وجوابــي وأنــا أحــاول أن أتقصى أثــر هذه الكلمــة، وقد فعلت ذلك منذ ســنوات بعيــدة، لكــن من غيــر أن أحــرر مقالا في الموضــوع؛ أن أصــل هذه الكلمــة من الجذر «برش» وهو عند ابن فارس في مقاييســه « أن يكون الشــيء ذا نقاط متفرقة بيض» وعند ابن منظور في لســانه وهــو أكثر تدقيقا وتفصيلا، يقــال لـ«الأبرش» أي الذي فيه ألوان وخلْط. و«البرش» في شــعر الفرس الأبرش )الفــرس يذكر ويؤنث(: نكت صغار تخالف سائر لونه. ويقال للشاة وللحية الرقشاء التي في لونها نقاط مختلفة برشاء. ويأخذ ابن منظور الافريقي «التونسي القفصي» بأيدينا، حتى يبلغ بنا معنى «الكثرة» و«الاختلاط»؛ فـ»البرشــة» بضم الباء لون مختلط حمرة وبياضا أو غيرهما من الألوان. و«برشاء الناس )بفتح الباء( جماعتهم؛ الأسود والأحمر. ويقول العربي كلما كثر الناس واختلطوا، وتعذر عليه تمييز أحدهم من الآخر: وما أدري أي البرشاء هو؟ أي، أيّ الناس هو. ويقال للسنة الخصبة كثيرة العشب برشاء، وللأرض كثيرة النبت مختلف ألوانها برشاء وربشاء.

وها هنا، يســحب ابن منظور يده، من أيدينا؛ ويعــود إلى معجمه حيث ينام نومته الأبدية، ويترك لنا، وقد تحررت يدنا؛ أن نفترض على «برشا» التونسية افتراضاتنا. وعليه نرجــح أن هذه الكلمة، إنما أطلقها العرب ما أن وطأت أقدامهم تونس، فقالوا، وقد أخذوا بخضرتها، وكثرة نبتها وعشــبها وأشــجارها، من جنوبها إلى شــمالها «هــذه أرض برشــاء» وخصــوا بهــا تونس على نحــو ما خصــوا اليمن بـ«الســعيد. والصحراء التونســية ليســت كلها قاحلة كما يقــع في الظن، ففيها مــن النبات ما لا يحصى، وأشــهره الحلفــاء، والنخيل في واحات الجنوب. وفي جبالها وســواحلها تنمــو غابــات الســنديان والبلــوط والفلــن والزيتــون والخــروب واللــوز والرمان والبرتقال... وكانت تونس تســمى «مطمــورة روما» إذ كانت لخصب أرضها وغزارة إنتاجهــا، توفــر لروما كلها حاجاتها، مــن الحبوب والخمور وزيــت الزيتون؛ منذ أن أعــاد يوليــوس قيصر بناء قرطاج. وعليه ليس بالمســتغر­ب أن تكون كلمة «برشــاء» انتقلــت مــن دلالة مطابقة أي دلالة الشــيء على تمــام ما وضع له، إلــى دلالة تضمن أو التــزام، بمصطلحات الدرس البلاغي القديم؛ وصارت تعني «الكــــــث­رة» وتحديدا «الكثــــــ­ير» في كل شــيء؛ على إقرارنا بما يقوله المعاصــــ­ـرون، من أنه لا أساس من الصحــــة إطلاقا، للافتراض القائل بأننا نعــرف ـ وبخاصة من أجل المراحل الماضية ـ التمييــز بــن الكلام الشــائع والعدول الفني. ويحســن إجراء دراســة معمقة لكلام الطبقــات الاجتماعية في الأزمنــة الغابرة قبل أن نقطع برأي؛ ولا يتســنى لنا بمعزل عــن تلك الظروف والملابســ­ات، أن نتوصل إلى فروض راجحة عن أســباب الحدوث الكنائي والتغير اللغوي في اللهجات.

وهــو ما يعــوز معاجمنا، فقد انصــرف النحاة عن العامل الزمني فــي تطور اللغة، وكان غــرض الكتــب المؤلفة في لحن العامــة، إثبات الصواب اللغــوي وليس وصف لهجة الناس أو عامتهم ومجاري كلامهم، أو العربية المولدة، أو قدرة المتكلم أو كفايته اللغويــة. وكلنــا يعــرف أن اللغة تتطــور وأن العلامــة أو الكلمة لا تمضــي على ثبات وديمومة واطراد، بل إن تطور العلامة يمكن أن يفضي عبر تحولات وتناسخات لغوية كثيــرة، لا إلى تغيرها وحســب، وإنما إلــى زوالها أيضا. ومن المفيــد أن نذكر في هذا السياق بضرورة التمييز بين إشارة إرادية تواصلية «مشفرة» وأخرى غير إرادية، أي تعبيرية تتعلق بالمشاعر والانفعالا­ت التي تثيرها الأشياء/ الكلمات في النفس؛ وهذه قد تند عن تعريف قرينتها. ولكننا نعرف «أن شيئا ما ليس إشارة، إلا لكونه مؤولا من حيث هو إشــارة لشيء ما بواسطة مؤول». وإذا كان ذلك كذلك فإن إرادة التأويل من حيث هي ســلطة أو ملكــة، يمكن أن تغير من مواقعها، فلا تظل الرســالة متوقفة على توصيل المرســل، وإنما هي تتوسع وتحد بالنســبة إلى الذي يعيد تحيينها، أو يكون ثانية مؤديها ولسان حالها.

وإذا كان التواصــل يســتند إلــى الإرادات المتلازمــ­ة المتكاملة في إرســال معلومة واستقبالها، فإن كم الإشارات التي يستلمها المرسل إليه )المؤول( ويدركها، يمكن أن تختلف عميقا عن تلك التي أرسلت إراديا. وقد لا يكون لـ«دلائلية المضمر» من موضوع ســوى هذه «الدلتا» التي يتجمع فيها هذا الكم المرســل المدرك، ويتشعب إلى ما يشبه الــدال؛ بيــد أن المضمر في كلمة «برشــا» التي نحن بها، لا يرجع إلى المجاز وحســب، وإنمــا إلى مظهر في قائم في اللغة وهو، أن المعجم يمثل نظاما وســيعا من التصنيف والترتيــب. وكل تصنيــف إنما يقوم على إجــراء مزدوج: اختيــاري وتجريدي حيث يســتصفى قاســم مشــترك؛ وتجرد الخواص الذاتية. وبهذا المعنى فإن اللغة تشظي الواقع وهي ترتبه، وتحوله إلى عناصر جزئية أكثر فأكثر بما يجعلها تجرد جزءا من هذا الواقع نفسه، على نحو ما نجد في كلمة «برشا» وأخواتها في لهجات العرب.

إن مثل هذه الكلمــات «المحلية» لم تجئ كلها مخالفة للقياس، وأكثرها يجري على أصول العربيــة وقوانينها، في اشــتقاق الصيغ وتصريفها. وهو مظهر مما نســميه «شــعرية اللغة» حيث ترد الكلمة في سياق من مشــتقاتها. والمقصود بهذه الشعرية إنمــا هو التنويع، أو التحول الكنائي على ما نســميه «جذرا» في نظام اللغة، أو أصلا أو «ثابتــا». وهذا التحــول، هو في جانب منه، من تحول اللغــة الداخلي، وما يقدحه الدال في الذهن من فكرة عامة، أو صورة ذهنية هي مدلوله. والأمر راجع في جانب لا يستهان به، إلى الطابع المبتكر في العربية نفسها. وقد استثمرت اللهجات هذا الطابع وأدارت عليه «محلياتها» ودفعت به إلى اســتعمالا­ت «جديــدة» أخذ فيها نظام اللغة القديم ينطوي على نفســه، ويطوي على وظيفته الإبلاغية المرجعية المطردة. على أنها أســباب ليس من اليســير، لفرط تنوعها، أن نحدها كلها، ومنها مــا يرجع إلى اللغة، ومنهــا ما يرجع إلى المحلي، بل لعلنا نفيد من المحلــي معرفة بها أوفر وأعمق، خاصة أنها تحف الاستعمال في الكثير من مسالكه واستعاراته وكناياته؛ بل بصيغ تعد من الحشو اللغوي. وما نخالها إلا من مظاهر تطور اللغة وتغيرها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom