Al-Quds Al-Arabi

القصة الشاعرة بين التشابه والاختلاف ومعايير الظروف البيئية

- ٭ كاتب عراقي

كثر الحديث عــن ولادة جنــس أدبي جديد، يجمــع بين قصيدة التفعيلة والقصة، أطلق عليه )القصة الشاعرة( وعقدت له مؤتمرات عديدة، خاصة في مصر بلد الولادة لهذا الجنس الأدبي، مثلما أجريت عليه رسائل وأطاريح جامعية.. ويبدو أن هذا الجنس الأدبي يواجه مــا واجه ظهور قصيــدة التفعيلة ذاتها في العراق في خمســينيات القرن الماضي.

لذا يمكن أن نطرح أسئلةً: هل القصة الشاعرة هي جزء من حاجة الإنسان لتبويب يومياته الثقافية؟ أم أنها تتطلب الهجرة أو النزوح نحو أماكن جديدة لم يطأها أحدٌ من قبل؟ أم أنها مسكونةً لكن لا أحد يدرك الأثر، حتى ينبري البعض ممّن لهم بــاعٌ طويل؟ أم هي محطّة من محطات الحاجة للمخالفة والإســراع نحو تطوير ما هو نقصانٌ موجودٌ، ملموسٌ أو محســوسٌ في الذات المخيلة والمتخيّلة؟ أو تأتي الحاجة الــى تقاطعها كما تؤكد ذلك التونســية نزيهة الخليفي حين قالت: «القصّة الشّــاعرة تنبني في جوهرها على سمتين أساسيتين هما، الاختصار أو الإيجاز والتّكثيف» وهو أمر متوافرٌ في النصوص الأخــرى، كالقصة القصيرة جــدا، أو قصة الومضــة.. وهناك أيضا نصوصٌ فيها ما يمكن عدّه إيجازا.. ولكن القصة الشاعرة خرجت لنا بميزة الاشتغال الجديد المكوّن من الفكرة السردية واللغة الشاعرة، رغــم إن هذه الخاصية متوافــرة أيضا في النصــوص الأخرى، بما فيها الشــعر الــذي يعتمد على الســرد، أو الســرد الذي يعتمد على اللغة الشــعرية التي تحلّق بالمتن السردي إلى مقوّمات شــعرية تحمل تأويلاتها المعنوية ودلالاتها المادية وقصدياتها الغائية.

وقد يرى البعض أنها مجرد ســحابة صيف ســرعان ما ســتزول، لكن الواقع يقول، إن الفيســبوك له بنات أفكارٍ ســرعان ما تمشــي، لكلّ من لا يمتلك القدرة على التدوين، التي ذكرها البعض، فتكون هي الوسيلة لنشريات عديدة.. وقد صنع الفيسبوك أبطالًا من وهم الإبداع، وساهم ذلك في الانتشار، ليس بسبب النقاد، بل تعدد الإعجابات من أناس ينتمون إلى الطبقة ذاتها.

خصائص ودوال

إن الإجابات ستتعدّد حسب مشارب من يمتلك الإجابة، كون القصة الشــاعرة هي مصدر من مصادر الزمن الجديد، وهي عنــوانٌ لبيئةٍ مخترقةٍ مــن كلّ الجهات، فتبدو كنصّ محاولة للبحث عن الشــيء الجديد، الذي يمكن أن يواكب الصعوبات والملمات، وتحشــيد الحياة بالكثير من المشاكل التي تتطلــب إيجاد متنفّســاتٍ عديدةٍ، لها القــدرة على امتصاص الفوران قبــل انفجاره.. بدون أن ننســى أن أيّ جنــسٍ أدبي مهما اصطلحنــا عليه، يجب أن يتحدّد بعدد مــن الخصائص التي تعطي دليلا لمدلوليــة المعيارية فيها، ويمكن لنا خلــط المصطلحات الثابتة لإنتاج مصطلحات تلائم البيئة وتطورّاتها، سواء كان التطوّر سلبيًا أم ايجابيًا، حســب المجتمع والبيئة. وكذلك فإن التوليفات الولادية الجديــدة تعتمد على كــون صاحبها له خبرة في قصيــدة التفعيلة والقصة بنوعيها القصيرة والقصيرة جدا، بمعنى إنه قادرٌ على كتابة ما كان ليولد من رحم قدرته الإبداعية السابقة ما يكون.

ورغــم ان بعــض الخصائص تنطلــق من أن محمــولات القصة الشــاعرة هي تواجد الموســيقى والوزن، مثلما يتواجد فيها السرد والمتخيّــل التأويلي، وهي وحســب رأي مــن يؤيد هــذا النوع من النصــوص يقول، إن هــذه الخصائص فنية لا يمكــن أن تخرج من عباءة من لا يمتلك الإبداع، بل إنه أبدع من الاثنين الآخرين الســارد والشــاعر، لأنه لابد أن يكون شاعرًا وســاردًا ومتمكّنًا ايضا، ولكن نظرةً واحدة الى كثرة المتداول من نصوص القصة الشــاعرة، نجد أن مطلقيها هــم مبدعون، وأن روادها جمعوا الحالتين، لأنهم وجدوا سهولة الحصول على الخصائص العامة،على اعتبار إنه حاجةٌ يمكن تأطير خصائصها، من خلال جمع ما هو متّفقٌ عليه في جنسٍ أدبي مع ما هو متّفقٌ عليه في جنسٍ أدبي آخر، وهنا بالتحديد جنســا القصّة وشــعر التفعيلة..لإنتاج نصّ يكــون قادرًا على مواكبــة المتغيّرات البيئية التي تحتوي كلّ المتغيرات الأخرى، سواء منها السياسية أو الاقتصاديـ­ـة، أو الدينية، أو الاجتماعية، أو حتى العلمية والتربوية، ما دامت الحداثة شيئا متحرّكا منذ أوّل نصّ حتى الآن.

نقاط التشابه والاختلاف

النــص الجديد، ربمــا كما ذكرنــا، يواجه الكثير مــن التضادات في الآراء التي قد تصل الى حدّ الشراســة، ولكن يجاهد في ســبيل التمكّن من الولادة، بعيدًا عن السيامية المعهودة، لأنه في حاجةٍ الى

أرضٍ خالصةٍ مــن الإبداع والمقدرة الفنية. ومــن منطلق البحث عن الخصائص التي تتبنّاها القصة الشــاعرة، وجدنــا أنه، أيّ النص، يحمل الكثير من الأغراض المتناقضة ليس في الجانب غير الإبداعي، بل في الجانب التدويني.. ويمكن حصــر الرؤية العامة لهذا النص، ســواء أكانت إيجابية أم ســلبية في بعض النقاط التي يمكن لها أن تتوسّع أو تختصر حسب المتلقّي ومنها:

إنــه نصٌّ جاء لإثبــات أن الواقــع اختلف، لذا كان علــى المدّون إيجاد نصّ جديــدٍ قابلٍ لامتصاص ما هو متغيّر، خاصة أن المتغيّرات الجديدة هي متغيّرات في أغلبها سلبية.

إنه نصٌّ جاء لتأكيد المقدرة على أن الأدب ليس في منطقة النخبة أو متعــال، أو أنه يعيش التفــرّد والوحدة، بل هــو أدبٌ مندمجٌ مع الناس، وهو حاجةٌ إنسانية، ســواء كان الجديد مقبولًا من الجميع، أم أنه لم يزل يجاهــد لإثبات وجوده، كما هــي النصوص الأخرى، كقصيدة النثر مثلا، أو الســردية التعبيرية التــي تعتمد أيضا على النثر الشعري والفكرة القصصية.

إنــه نصٌّ في حاجــةٍ إلى مبدعٍ قــادرٍ على الجمع بــن خاصيتي الشعر والسرد، وليس في حاجةٍ إلى كاتب مدوّنات خابية وخواطر ابتدائية، أو حتى ما يصطلح عليه بالمدّونات التقريرية.

إنه نــصٌّ يزيح الثوابت لإنتاج ما هو قابــل للتحرّك، وفق أجواء

أخرى تفرضها الظــروف البيئية، التي تضم كلّ الظروف الأخرى من سياسية ودينية واجتماعية واقتصادية وحروب وغيرها.

إنه نــصٌّ يقاوم الغربة، فــي كون منتجها ليــس فقط يجمع بين كينونة الشاعر والســارد، بل إنه يمتلك القدرة على التدوين بهاتين الخاصيتين لإنتاج نصّ قابلٍ للفهم والتفكيك والســيميا­ء والتصالح مع الآخر.

إنه نــصٌّ لا يمكنه أن يكون عابرًا لمنطقة الجنس الأدبي إلى جنسٍ أدبي آخر، بــدون أن يتمكّن منتجه من معرفــة خصائص الأجناس الأخــرى، لأنه، أي المتأثر الذي يريد تقليــد التدوين الجديد، ربما لم يتمكــن من حصر تلك الموتيفات لإنتاج نــصّ قابلٍ للتحول إلى قصة شاعرة.

إنه نصٌّ بالإمكان قلب المعادلة أيضا، يمكن أن يكون شعرًا ساردًا، أو الشعر القصصي ما دام الجنسان متداخلين مع بعضهما.

إنــه نصٌّ لم يصل بعد ليكون قارًا، كما يؤكّد البعض من الباحثين، لأن عمره لم يتجاوز السنوات الست، كما ذكر عن تاريخ الميلاد.

إنه نصٌّ يثبــت أن النصّ لا يمكن أن يكون ثابتًــا، وأن المتغيّرات الظرفية قــادرةٌ على إنتاج نصــوصٍ تواجه عقبــات الظروف، أو حســناتها فليس شــرطًا أن تكون المعاناة هي المفجرة، فالمجتمعات الغربية ولدت عندها المصطلحات، وهم في حالةٍ من الرفاهية، ولكن مجتمعاتنا العربية لا تنتج إلّا بعد عســر ليكــون النصّ الجديد هو اليسر المنتج.

10ـ إنه نصٌّ بدل أن يذهب لفظّ تشابك الأجناس، ذهب إلى دمجها، ومنها يجــد البعض صعوبةً في ملاحقة المنتج الجديد واســتهلاك­ه، ليكون متداولًا على نطاق واسع.

11ـ إنه نصٌّ يمنع الاستســها­ل في كتابة النصوص ويقوّي مناعة النصّ أمام مغريات الكتابة في مواقع التواصل الاجتماعي.

12ـ إنــه نصٌّ يعلن عــن إنه واحدٌ من الأجنــاس المتمرّدة على ما هو موجود مــن أجناس أخرى، رغم إنه لا يخــرج من جبّ التداخل الإجناسي، الذي أتاح التزاوج بين الفنون كلّها وليس بين النصوص الأدبية فقط.

13ـ إنــه نصٌّ يبيّن مــا طرحناه مــن مفهــومٍ أو مصطلح النصّ الغاضب كونه جاء ردّة فعلٍ على المتغيّرات التي حصلت في المجتمع، ومن ضمنها المتغيّــرات الثقافية التي خرجت من أطــر الممنوع، إلى مساحات التعبير الحر، لكنها كانت مســاحات مختنقة تحيل المنتج الى الغضب فيكون النصّ غاضبًا بدوره.

14ـ إنه نصٌّ ينطلق من محمولات رمزية ويبحث عن الجمالية في التدوين وقادر على منح الغنائيــة للمتلقّي، كي يتوازن ما بين إيقاع التلقّي وإيقاع التأويل، لإنتاج حالةٍ غير مسترخيةٍ في عملية التلقّي ذاتها.

15ـ إنــه نصٌّ مهرّبٌ لضعــف التدوين في عمليــة القصّ مع قوّة التدوين في عملية الشــعر، لأن الشــعر هنا أقوى فــي عملية المزج والتزاوج.

ـ إنه نصٌّ أقرب إلى الشعر منه إلى القص وروح الحكاية في السرد لكنه كتدوينٍ قد يكون ممازجًا حتى في عملية التدوين المسرحي.

ـ إنه نصٌّ يحمل التشــفير كما يذهب البعض، وهو أمر نجده في النصوص الأخرى المســتقلّة بمصطلحاتها.. بمعنى لا يغيب التشفير عن أي نصّ آخر لأنه مرتبط بالتأويل، ما يعني أن غياب التشفير عن أيّ نصّ يفقده خاصيّة الوجود كنصّ أدبي.

ـ إنه نصٌّ يختزل التشفير بطرق حاصل جمع التأويل بمراحل تفكيك الأسطر الشعرية، على اعتبار أن التدوين هنا لم يغادر تدوين قصيدة النثر، أو قصيدة التفعيلة في الاتجاه العمودي، حتى إن كانت عملية التدوين أفقية في بعض من يدوّن القصة الشاعرة، لدى البعض، في عملية المواجهة والممازجة والمزاوجة التدوينية الأقرب للسرد.

ـ إنه نصٌّ لا يمنــح المفردة ســهولة التدوين، بقدر ما يبحث عن اللغة الشــاعرية أو حتى البلاغية، وفي بعض الأحيان يحمــل الفكرة الفلســفية للمعاني التي يحصل عليها المتلقّي.

ـ إنه نصٌّ يمتاز بوحدة الجسد النصّي الذي قد يفتقده النصّ الشــعري الذي يبث أســطر النص بمجموعة من المحمولات ليكون الدال بين العنوان والنص والخاتمة.

ـ إنه نــصٌّ التجريب المتواصل الذي قد ينجح أو يبقى في حالة ترحال نحو التجريب لأنــه لا يمتلك المطواعية في الانتشــار الذي تحدثه النصــوص الأخرى.. بمعنى أنه نص صعب أن يكون ســهلا في التدوين في زمن صار المنتج فيه يبحث عن خاصية السرعة والاستسهال. ـ إنه نصٌّ من جهةٍ أخرى سيكون سهلًا للذين يملكون القدرة على الإنتاج الأدبي، ولهم فهم في إنتاج النصوص الشــعرية والســردية لأنــه يمنحهم قدرة الاختصار الكلي لفكرةٍ تحتــاج إلى مقدرةٍ كبيرة للتحويل إلى نصّ سردي فيكون اللجوء إلى القصة الشاعرة كبديل مناسبٍ لعصرنة النص.

ـ إنه نصٌّ يثبت إن المرجعية عربية، كما هي الشــعر أصلا وليس واردًا غربيًا، وهــذا النص ولد عربيًا، من خلال الحاجة الإنســاني­ة الكلية للمجتمعــا­ت العربية، التي تريد التحليــق بالمتخيّل لمواجهة سوداوية البيئة.

ـ إنــه نصٌّ من الصعوبة التوافق عليه، لأن هناك من يعده هجينًا بين الشــعر العربي والسرد الغربي، وإنه ســيكون كمن يقرأ ومضةً ويمضي.

ـ إنه نصٌّ غير موغل في اللغة الشــعرية المتعارف عليها وتلبس الجملة فيه المفردة السردية والعكس صحيح.

ـ إنه نــصٌّ يغطّي على ضعف المدلول الســردي فــي ربط المتون الخاصة بالقصة، لأن هناك انتباهًا إلى خاصية التدوين الشــعري، من خلال البحث عن مفردةٍ قادرةٍ على التحليق الشعري وليس المتن السردي.

ـ إنه نــصٌّ يحلّق بالمفردة كي تعطي مدلول التفكير والتأويل، من خلال خاصية الشــعر، فلا يرتكن إلى السطر السردي بقدر ما يرتكن إلى السطر الشعري بثوب سردي.

ـ إنه نصٌّ يمنح المتن التدويني موســيقى يحتاجها المتلقي في زمن اضطراب الحواس وفوضاها.

ـ إنه نصٌّ قادر علــى منح التأويل المقدرة الفلســفية لما يدوّن من فكرةٍ ولغة.

ـ إنه نصٌّ يربك المنطقة القصديــة ويجعلها في مدياتٍ أخرى غير تلــك المديات التي تريد مــن القصة أن تمنح المتلقــي حكاية في آخر المطاف.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom