Al-Quds Al-Arabi

رياض نجيب الريّس... الناشر الذي حَرَّكَ الكثير في الثقافة العربية

- تونس ـ عبدالدّائم السلامي:

غادر دنيانــا بالأمس الكاتبُ والصحافي والناشــر الســوري رياض نجيب الريّس ‪26 )1937-‬ ســبتمبر/أيلول 2020 ( صاحبُ دار «ريــاض الريــس للكتــب والنشــر» في بيــروت، إثــر إصابته بفيروس كورونا، في أحد مستشــفيات العاصمــة اللبنانية التي كان يخضــع فيهــا لعمليــة جراحية. وقــد نعاه كثير مــن الكتّاب العرب والأجانب، وأشــادوا بجهوده التنويرية في نشــر الإبداع العربــيّ والدّفــاع عــن حضــوره فــي المعــارض الدولية.

والجديــر بالذِّكــر فــي هــذا الشــأن، أنّ ما ميّــز الناشــر ريــاض نجيــب الريّس عــن باقي الناشرين العرب، هو أنّه أنجز بجُرأة عالية مغامرة ثقافية وحضاريّة كبرى، ســتذكرها أجيالنــا العربيــة كلّمــا جــرى بينها حديثٌ حول نشــر الكتــابِ. فالرّاحــلُ يُعــدُّ أهــمّ ناشــر عربــي وعى مكانــةَ النّشــر، من حيث هو الحلقة المتمِّمة لدائرة الإبداع الكتابــيّ )كتابة، نشــرا، قــراءة( ولذلــك كثيرا مــا كان يقول: «أنا ناشــر ولســت طابِعًــا» فالنشــر وَفْــقَ فلســفته ليــس طباعة نصٍّ بمقابل مالــيّ ثم نســيانه، وإنما هو خلق سبيل يعبر منها نــصُّ الكاتب إلى قارئه، قبل كلّ تفكير فــي تنفّع ماليٍّ، ولكن: أيُّ نــصٍّ هو جدير بالنشــر؟ إنه النــصّ الجادّ والمتميّــز، ذاك المتمرّد علــى قوانين جنســه أو نوعــه، والمزلــزل لقوانــن الــرأي العامِّ الثقافي والاجتماعي والسياســي الســائد، الذي مــا إن يرفضه الناشرون الخائفون من فقدان مصالحهم الشخصيّة مع الأنظمة السياســية الحاكمة، حتى يســتقبله رياض نجيب الريّس مراهنًا عليه، ومغامِرًا بنشــره متحمّلا تبــــــعا­ت تلك المغامرة، إنْ معنويًّا أو ماديًّا.

وخلال مسيرته الصحافية الطويلة أنتج الريس نحو 37 كتابا منوعا، بينها ديوانان من الشــعر، وكان عضوا في مجلة «شــعر» التي أسسها يوسف الخال عام 1957. وآخر إصداراته كان كتاب «صحافي المسافات الطويل» الذي عرض فيه محطات من سيرته الشــخصية علــى مدى ســتة عقود. وقــد كتب الراحــل في مقال نشــره عام 2018 بعنوان غســيل كلى سوري: «الصحافي يمضي حياتــه بــدون أن ينجز تحقيقاً واحداً عن نفســه، إنــه ممنوع من ذلــك، الصحافة التــي عرفتُها لم تكن يوماً كتابــةً عن الذات، فأنا لســت الخبر، والخبر لم يكن يوماً أنا، وإن كنت أجد نفســي الآن أكتــب ولأول مرة هــذا التقرير الروائي، الشــخصي فوق العادة، كمــن يعرِّف عن نفســه أخيراً لعائلتــه، لابنه وابنتــه وأولادهما، بعــد كل تلك العقود، أن يدلو بما يختزنــه من انطباعات ووجوه، حــوارات ومفارقات وزلّات وأخطاء، فالصحافي أشــبه بالفلاح الــذي يحمل مــذراة يذرّي بهــا قمح التاريــخ، بحبّاته المسوّســة والســليمة، يُعرِّض الأحداث للهواء، ثم ينكفئ. إنه أشــبه بخزان صامــت، قد لا تتيح لــه الحياة فرصة أن يفرغ مــا في ذاكرته إلى العلن، أو قد يداهمه مثلاً مرض لئيم، يتنافى وطبيعته ويتعارض تماماً مع أســلوب حياته، كمــا في حالتي هذه، وعليــه عندئذ أن يعرف كيف يتعايش معه، تماماً كتعايش نقيضين، خاصة عندما يكــون مرضه مرضاً لم يفلــح في أن يصبح شــللاً مكتمل الهيئة، ولا يروق له ربما أن يمكث في جســد مكابــر لطالما اعتاد الإحاطة شــخصياً بأحداث مصيرية، وســمت النصف الثانــي من القرن العشرين، وحددت مصائر شعوب ورسخَّت نكباتها».

وعن ســيرة الراحل رياض الريس في الصحافة والنشر، كتب صديقــه الروائي الســوري فــواز حداد قائلا، إن مســيرة رياض الريس، إنما هي اســتكمال لمســيرة والده الرائــدة نجيب الريس، الصحافي والسياســي الوطنــي، صاحب المقــالات الجريئة في جريدتــه «القبــس» الناقــد العنيف الــذي لم تلن قناتــه للانتداب الفرنســي، ولا للحكومــات الوطنيــة، لــم يوفرها مــن انتقاداته، إنه ســجين جزيرة أرواد، التــي انطلق منها النشــيد الذي حفظه الشــباب العرب: «يــا ظــام الســجن خيم/إننا نهــوى الظلام». وقــد تلقى رياض خبراته الصحافيــة الأولى في جريدة «القبس» الدمشــقية، وظهــرت في تلــك الفتــرة بداياته الأدبية فــي كتابة الشــعر، وكأنه ورث عن أبيه الصحافة والشــعر معــاً، بيد أنه مع الوقت ســيلتزم بالصحافــة، وتبدأ تجاربه الأولــى وهو ما يزال يــدرس فــي «برمانــا» وفي ما بعــد في لنــدن. وقد ألّــف الراحل كتبًا عديــدة انصــبّ جَهدُه فيهــا علــى دراســة قضايا اجتماعية وسياسية عربية، على غرار كتبــه «مصاحف وسيوف» و«آخر الخوارج» و«لبنــان تاريــخ مســكوت عنــه» و«المســيحيو­ن والعروبة».

ويذكــر فــواز حــداد أن رياض الريــس غادر بيروت إلــى لنــدن، مــع نشــوب الحــرب الأهليــة اللبنانيــ­ة 1975 وهنــاك أصــدر جريــدة «المنــار» وكانــت أول أســبوعية عربيــة فــي أوروبا، كما أسّــس شــركة رياض نجيب الريس للكتب والنشر سنة 1986 ثم أسّس مكتبــة «الكشــكول» فمجلة «الناقــد» التــي واجهــت رقابــات البلــدان العربيــة كافــة، وأحدثت زلــزالاً في الثقافة العربية، واحتضنت كتابات المثقفين من دون أن يضيرها الممنوع منها، لكنها توقفت بعد خسائر مادية لم يستطع رياض الريّس تحملها.

واعتبــر الكاتب العراقي باســم المرعبي أن ريــاض الريّس هو «آخــر الصحافيين الكبار بحق، كتب بحــسّ الأديب فكان لكتابته طعــم آخر غير الســائد، امتاز بالجــرأة والمغامرة، أســس وأطلق أكثــر من مجلة وصحيفة ومشــروع. دأب علــى احتضان الكتابة الجديدة وكانت مجلتــه «الناقد» مختبراً للحرية، أما منشــوراته فقد أعادت للكتاب بريقه، شــكلاً ومحتــوى». وفي نعيها لرياض الريّس امتدحت الصحافية السورية غالية قباني انغماسَ الراحل طوال حياته في الصحافة والثقافة وعفافَه عن السياسة. وكتب الروائي المصــري إبراهيم عبدالمجيد قائلا: «كم كان مفكرا وكاتبا وناشــرا وإنســانا عظيما. نشــر لي رواية «البلدة الأخرى» سنة 1991 بــدون أن نلتقي قط، وكان حَسَــنَ المعاملة والذوق وفتحت مجلــة «الناقد» صفحاتها لمقالات بديعــة عني. كان يختار الكتاب والكتابــة المغامرة الجديدة شــكلا وموضوعا، ولا يبخس الكاتب حقه أبدا».

أمّــا الباحث والروائي اليمني علي المقــري فيذكر حادثة جدّت لــه مع رياض الريّــس، ويصوّرها في قوله: «تعرّفــت على الرّيس في صنعــاء بداية التســعيني­ات، حيث كان اليمن مــن اهتماماته الصحافية والسياســي­ة، فتناوله في الكثير من كتبه، ومن يومها كان يتعامــل معــي، وأنــا الكاتب الناشــئ، كصديق، فنشــر لي مقالات في مجلة «الناقد» كما وقّع معي عقد نشــر كتابي «الخمر والنبيذ في الإسلام» عام 1996 على أن ينشر في العام الذي يليه، لكنه تراجع عن النشــر بعد الحملــة التكفيريــ­ة والتهديدات التي تلقيتهــا من المتطرفين الإســاميي­ن، أثناء نشــر مقــالات منه في «الجمهوريــ­ة الثقافية» عــام 1997 وطلب منــي أن أتفهم تراجعه «بحكــم الصداقــة» وأن أعتبــر المبلــغ الــذي كان قد أرســله إليّ كحقوق نشــر مقدماً لأي كتاب جديد، تجيد به قريحتي، حســب تعبيره. لكنني لم أرسل إليه أي كتاب بعد ذلك إلى أن عاد وأصدر الكتاب عام 2007 بعد مراســات بيننــا. وما يمكن قوله إن رياض نجيــب الريس بقي طوال حياته الثقافية محرّضاً ومشــجعاً على ممارســة الحرّية غير المشــروطة، وبدا تميزه مع تعامله مع نشــر الكتب، ســواء في اختيار المواضيع أو في طريقة الإخراج والنشر والتوزيع. مع رياض الريس كان يكفي للذين تضيّق على كتاباتهم الســلطات الرقابيــة، أن يكتبوا بكل حرّية وهــم يعرفون أن هناك من سيشجعهم على نشرها، وهذا ما شعرت به وأنا أكتب كتابي الذي نشره».

 ??  ?? رياض نجيب الريس
رياض نجيب الريس
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom