Al-Quds Al-Arabi

هل يمكن الوصول إلى اتحاد دولتي إسرائيل وفلسطين؟

بمرحلتين و7 سنوات:

- ■ هآرتس 2020/9/27

في مفترق شارع «يهودا هيميت» وشارع «آدم باروخ» في يافا، مباشرة قبــل الصعود الحاد إلى مطعم حمص أبو حســن الأســطوري، هناك ميدان صغير ومعتنى به جيداً، زرعت فيه أزهار وشــجرة زيتون، ويســمى باسم الشيخ باســم أبو زيد، الذي كان في السابق إمام المسجد الكبير «المحمودية» في منطقة الميناء، وكان المفتي ومن مؤسسي الحركة الإسلامية في يافا.

هذه الزاوية الصغيرة التي تحتــرم وتقدر العربي واليهودي الموجودين فيها هي -حســب رأيي- رمز ونموذج للنهج. إســرائيل دولــة نموذجية، يهودية وعربية وديمقراطيـ­ـة كبيرة، موحدة ومزدهــرة، يعيش فيها أبناء الديانــات باحترام وســام وصداقة، يعيشــون فيها ولم يعــودوا يحارب بعضهم بعضاً ولا يقتلون فيها ولا يموتون باسمها، يعيشون.

منذ إقامة الدولة وحتى قتل رئيس الحكومة إسحق رابين، كانت إسرائيل مثل أحد الزواحف: أكلت الأراضي وكبرت بســرعة. وتقيأت أحياناً من كثرة الأكل، إلى أن جاء الوقت وأشــبعت شهيتها الكبيرة وأخذت مكانها في فضاء الشرق الأوســط، مع حدود غير واضحة وعدم راحة في المحيط. قضية القتل تلك وكأنها جمدتها في مكانها. قتل رابين هو النقطة الزمنية التي تحولت فيها الحشرة الزاحفة إلى شرنقة.

مرت 25 ســنة، ومنذ ذلك الحين توقفت إسرائيل عن الأكل. فأقامت حولها أســواراً وجدراناً، وتقوقعت داخل ذاتها وتجمعت داخل نفســها الصاخبة، وغلفت نفســها بدرع وجدران واقية وقبة حديدية، ولم تتوقف عن الشجار حــول حدودها غير الواضحة وغيــر المتفق عليها، والمختلــف حولها. وكأن الشرنقة تمردت على صانعها. 25 سنة مرت وإسرائيل متعبة من شدة الجوع لشــيء آخر. تيارات الأرض فيها تتمــرد بصوت رمزي: العدالة لســولمون والعدالة لإياد. يثورون إزاء حالتها الوجودية المتعفنة، المشــبعة بالكراهية والمتلاعبة وضد الحقد والشــجار والخلاف. 25 ســنة مرت وقد حان الوقت لإجراء تغيير، حان وقت تحويل شكلها.

الشــعب مثل الإنســان، مخلوق دوري ومتطور. الأمة كيــان حي، يفكر ويتغير ويتحدد مع مــرور الوقت ومع دقات عقارب الزمن. للشــعب جروح ومخاوف ومشاعر. التاريخ التراكمي والوعي المشترك هما القصة المتشابكة بلغتهــا وواقعها. المرحلــة القادمــة والمطلوبة في حياة إســرائيل كأمة هي التحول من شرنقة إلى فراشة.

هــذه اللحظة التي تندفــع فيها من داخل الكبســولة المظلمــة والمكتظة والقبيحة فراشة جذابة وملونة وجميلة إلى الهواء الحر، هي إحدى لحظات الطبيعة المدهشة، وهي الطبيعة بكامل ســحريها، وهي ذروة عملية النضج الطويلة وأحياناً المؤلمة، لكنهــا الضرورية والمحتمة. هذه اللحظة هي تحقيق هدف الشرنقة التي كانت ذات مرة زاحفة. هي الإمكانية الكامنة التي نضجت في وقتها لتصبح واقعاً. هي تجسيد للحلم، هي العيش بسلام.

كتب مارتن لوثر كينــغ ذات مرة بأن الوقت يحــن للتغيير عندما يكون الوقت نفســه مســتعداً للتغيير. وكتب الشــاعر يعقوب روتبليت في نهاية ســتينيات القــرن الماضي في قصيدة للســام: «لا تقولوا ســيأتي يوم، بل أحضروا ذاك اليوم». كينــغ وروتبليت محقان... كل شــيء يأتي في وقته. ووقت الســام لا يمكن أن يأتــي إلا بعد الحرب. ولكن زمن الســام لا يأتي هكذا بصورة مجردة، في يوم صاف: يجب وعلى الإنسان والشعب التسامي من أجله. زمن الســام هو المشــهد الذي نراه من قمة الجبل. هو مقابل الجهد الإنســاني الكبير، الجهد الذي هو تســامي النفس، الجهــد الذي هو التغلب على الخوف، الجهد الذي هو الشجاعة والقدرة على حب النفس، وهو الجهد المنقى. هذا جهد يشكل النمو من داخل الصعوبات والألم وقيود الماضي، جهد يشكل الخروج من شرنقة العبودية إلى حرية الفراشة.

في العــام 2020، بعد 150 ســنة تقريباً على النزاع الدموي والوحشــي والعنيد، حان الوقت للشــعب اليهودي كي يصنع ســاماً مع العرب، سلاماً يشــكل إعادة قبول لليهودي في أرجاء الشــرق الأوســط، مكانه التاريخي والطبيعــي... ســاما اعتراف وقبول وتســليم وتصالح مع أبناء الشــعب الفلسطيني، أبناء هذه البلاد، وســكانها الأصليين وأطفالها... سلاماً يخلق شراكة متساوية وحقوقاً كاملة متساوية لجميع سكان الأرض. البلاد واحدة

وهي لنا جميعاً.

منذ العــام 1937 وحتى الآن يحاول العالم تطبيــق صيغ مختلفة للفصل بين أبناء العم، أبناء إبراهيم، اليهود والعرب، ولكن بدون نجاح. منطق مبدأ الدولتين يقول إنه إذا تم فصل التجمعين السكانيين، هؤلاء هنا وأولئك هناك، فسيقتنع الشــعبان بنصيبهما وسيضعان السلاح وسينهيان العداء. هذا لم يحدث ولن يحدث. الأمر ليس كذلك.

ففكرة تقسيم البلاد ورثناها من الانتداب، وهي ليست فكرتنا، بل تعارض التراث الذي جئنا منــه. كان البريطانيو­ن في حينه إمبراطورية كولونيالية في السير نحو الأفول، وما اســتطاعوا فعله هو رسم خطوط على الخريطة طبقاً لدرجة وجع الرأس الذي تسبب به الشعبان اللذان يقعان تحت حكمهم. وقد مرت منذ ذلك الحين 83 ســنة وما زال العالم يحاول تطبيق صيغ مختلفة لنفس الحل باسم نفس المبدأ، لكن البلاد نفسها وكأنها لا تريد أن تنقسم. هي تتحدى ســكانها المتشابكين وتقول لهم: عليكم أن تجدوا حلاً آخر. البلاد مثل الطفل الذي أُحضر أمام الملك سليمان: إذا قسمه فسيقتله.

إن حل دولتين متخاصمتين وغير راضيتين، تتداخل كل منهما في الأخرى، لن يؤدي إلى هدوء أو سلام. وســبب ذلك بسيط، وهو أن النزاع بين اليهود والعرب ليس نزاعاً على الأرض، والخلاف بيننا ليس خلافاً على مساحة، بل هو قصة خوف واستهانة وتعال وغضب.

النزاع هو قصة اليهودي الذي أُبعد عن أرضه قبل ألفي ســنة، وعاد وهو يرتدي بدلة ومعطفاً وقبعــة، والتقى للمرة الأولى مع حيــاة العربي، الذي كان هو نفســه مثله. وقد سماه فلاحاً، ورأى فيه شــخصاً حقيراً، وقد سخر من ثقافته ودينــه وعلاقته بالأرض. ثار العربي ورد على ذلك بغضب وعنف قاتل.

وفي تلك اللحظة بالذات ولد النزاع القومــي الذي يرافقنا منذ ذلك الحين حتى الآن. جميعنا ولدنا فيه، وجميعنا أســرنا داخل الأطر المقيدة والمسممة والمحفورة عميقاً في وعي الشعبين. وقد حان الوقت للتعافي.

البشــر يريدون من الآخرين أن يروهم، وهم يريــدون أن يعترفوا بهم، وبقيمهم وثقافتهم، وبلغتهم وتاريخهم. البشــر ينمون ويتطورون من خلال رؤيتهم لهم. وبالعكس، الناس يطــورون الغضب والإحباط إذا تم تجاهلهم وإذا تم تجاهل وجودهم، وإذا لــم يحترموا مكانتهم وتعالوا عليهم. على كل الأحوال، حل النزاع المحتمل والوحيد هو مسار المصالحة الذي سيتحول العدو خلاله إلى صديق. كل محاولة لإيجاد حل آخر هي تجاهل لجذر المشكلة، وفي الأصل ســيبقي الطرفان متعاديين وغير راضيين. ســتبقى الأرض في مكانها إلى الأبد، يجب أن يتغير الموقف. وعلى الشعوب أن تتجاوز الإخفاقات. يجب على الشعب الفلسطيني التغلب على الغضب وشعور الانتقام. وعلى الشعب اليهودي إيجاد القوة للتغلب على الخوف وعلى الحاجة إلى السيطرة. هذه هي الحلقة المفرغة التي تحيط بطرفي النــزاع والتي يجب الخروج منها إلى الحرية. نحن معاً هنا على الأرض نفســها، نعيش بقــوة الوعد الذي أعطي لنسل إبراهيم، وقد حان الوقت للتعلم كيف نعيش معاً بشكل جيد وبسلام.

إن خطوة أولى في رحلة المصالحة هي اعتراف الشعبين بحقهما المتساوي والمشترك على كل الأرض.

روح جديدة ســتهب في البلاد عند الاعتراف المتبادل بالحقوق. ولا يمكن التقليل من أهمية هذه الخطوة، لأنها ســتكون المــرة الأولى في التاريخ التي يعترف فيها الفلســطين­يون بحق اليهود الطبيعي في البلاد؛ وهذه ستكون المرة الأولــى التي تفتح فيهــا الحركــة الصهيونية عيونها علــى محيطها، باعتراف متبادل هو الأساس لإصلاح العلاقات.

المرحلة الثانية هي وقف كامل للعنف مدة ســبع سنوات على الأقل بدون إرهــاب أو صواريخ أو اقتحام الجيش للمدن الفلســطين­ية وبدون تحريض أو خطوات أحادية الجانب مهما كانت، وبدون توســيع المستوطنات، وبدون سكاكين وبدون مستعربين ومحاولة قمع وسيطرة. سبع سنوات من الهدوء المبارك والضروري ليس فيها أي استفزاز.

فترة اختبار وإعادة تأهيل، سيتم ذكرها رســمياً بعد عمل دعائي عميق، يؤكد خلاله على المصالح المشــتركة للمصالح التاريخية، حتى في أوســاط المعارضين الأكثر بروزاً في الشــعبين. مع ذلــك، إذا كانت هناك أعمال عدائية دموية في فترة الاختبار فستفشل العملية.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom