Al-Quds Al-Arabi

كلمات في انتفاضة أرض الكنانة

- *كاتبة أردنية

مرّ المعلم كونفوشــيو­س على مقربة مــن جبل «تاي»، فأبصر امــرأة تقف على أحد القبور باكية، فســألها: كأنك احتملتِ الأحــزان فوق الأحزان، فــردت: كذلك الأمر، فقد قتل نمرٌ من قبلُ والد زوجي في هذا المكان، وقتل فيه زوجي أيضًا، وها هو ولدي قد مات الميتة نفسها، فقال المعلم: ولمَ لمْ تتركوا هذا المكان؟ فأجابت: ليســت هنا حكومة ظالمة، فقال المعلــم آنذاك: تذكروا يــا أولادي قولها «إن الحكومة الظالمة أشد فظاعة من النمر».

يبدو أن الشــعب المصري، أدرك خطر النظام الفاشي الذي يحكمه، وأنه أشد خطرًا من كل معاناة رزح ذلك الشــعب تحت نيْرها، غير أنه لم يختر الموت جوعًا وقهرًا منزويًا في طيات الهوامش، وآثر التعرض للموت أملًا في نيل حريته.

أســبوع مضى علــى اندلاع شــرارة التحرير فــي أرض الكنانــة، مظاهرات ومسيرات نهارية وليلية، في العديد من قرى ومدن محافظات مصر، حاول النظام التغطية عليها وإخفاء معالمها وآثارها، غير أنها أقوى وأوضح من أن تُدَثَّر بأعمال سحرة الفرعون.

جاء هذه الحراك بعدما بلغ الســيلُ الزُّبى، وتحمل الشعب المصري ما لا تطيقه الجبال الراسيات، وحورب في رزقه وسكناه، بل وفي دينه، أمام نظام لم يتعامل حتــى بمبدأ العصا والجــزرة، والثــواب والعقاب، بل صار المســلك الوحيد في التعامل مع هذا الشــعب هو العصا لا غيرها. هذه الجموع لم يُخرجها من البيوت الفنــان والمقاول محمد علي، بــل أخرجها الجوع والفقر والمــرض وهدم البيوت والمســاجد وقوانين الجباية والتفريط في حقوق الشعب من الأرض والماء، فقط كانت تحتاج إلى تحديد موعد، موعد مع إطلاق الصرخات. خرج الشــعب بعد أن أدرك أنه قد يموت في انتفاضته ويموت كذلك في صمته وســكونه، إلا أنه اختار الموت في كرامة، ربما إن لم يجْنِ هو ثمرة الانتفاضة في حياته، قد يجنيها أحباؤه بعد مماته.

ربما يتســاءل الكثيرون عن جديد هذه الانتفاضة، فقد ســبقتها محاولات لم تُصب شــيئا من ذلك النظام، ولم تغير شــيئا، لكن هذا الحراك يختلف تمامًا عما سبق، بما يضعنا أمام أحداث منتفخة حُبلى بأشياعها.

انتفاضــة بلا قائد، بلا موجــه، اندمجت فيها دماء الشــعب المختلفة، قام بها البســطاء المهمشــون، خرجت عفوية من رحم المعاناة، لا تمســك بزمامها قوى سياسية، أو تيارات دينية، واختفت فيها الرايات الحزبية، اجتمعت في شعاراتها على ســقف واحد مرتفع، وهو رحيل عبد الفتاح السيسي رأس النظام، ليس لها مطالب فئوية من وقف أعمال الهدم، أو رفع الضرائب، أو خفض الأســعار، لعلمها أن هــذا الديكتاتور لن يكف عن إذلال هذا الشــعب بصــورة أو بأخرى، حتى إن استجاب لبعض مطالبهم الفئوية لإخماد ثورتهم. انتفاضة رغم بساطة القائمين عليهــا، إلا أنها مُفعمة بخبرة الحراك الثوري خلال ما يقرب من عشــر ســنوات منذ اندلاع ثورة يناير، حيث يعلم المتظاهــر­ون أن فكرة التجمع في ميدان واحد يعني الاســتئصا­ل، فاندلعت المسيرات والاحتجاجا­ت في الأطراف في عدة نقاط للتظاهر، تتجاوز ســتين نقطة في العديد من مدن وقرى محافظات مصر، لتكون أبعد عن يد النظام الباطشــة، مركِّزة على الاســتمرا­رية إلى أن تعظم كرة الثلج، وينضم النائمون والمقعدون والمتباطئو­ن والمترقبون إلى صفوف الثوار. الجديد في وعي المتظاهريـ­ـن، الحس الأمني العالي، فالملاحظ أن موثقي تلك المســيرات يتعمدون التصويــر من الخلف منعا لســقوطهم في أيدي قــوات الأمن، إضافة إلى حرصهم علــى إبراز توقيت التظاهر تفاديا لتكذيب الإعلام الموالي للســلطة والادعاء بأنها مشاهد سابقة.

جماعــة الإخوان المســلمين، رغــم الضربات القاصمــة التي تلقتهــا من قتل واعتقالات ونفــي وإقصاء، إلا أنها تعد القوة الأقدر على التثوير، وقيادة الحراك في الشوارع، ورغم أنه من المؤكد وجود عناصر إخوانية في صفوف المتظاهرين، إلا أن الجماعة لم تعلن المشــاركة فيها بصورة رسمية، ومن وجهة نظري هو قرار صائب لأسباب، الأول: النأي بالحراك عن الأدلجة، التي هي عين ما ينشده النظام الذي يســتخدم فزاعة «الإخوان» لإســكات أي صوت معارض. والسبب الثاني: مراعاة الفجوة التي أحدثها النظام الانقلابي بين عموم الشــعب، والتيار الديني بصفة عامة والإخوان بصفة خاصة، والتي تؤثر في كيفية تعامل هذه الحشــود مع مشــاركة الجماعة، ففي الغالب ســتكون هناك مخاوف مــن مطالب ومصالح حزبية، ومن ســرقة الثــورة التي بدأت على أكتاف هذه الحشــود. والســبب الثالث: هو رغبة الإخوان فــي التأكد من صدق الجماهير فــي الرغبة بالإطاحة بالنظام واســتمرار­ية الحراك، ومن ثم تتم تعبئة أفــراد الجماعة بعد ذلك، لدعم الانتفاضة والدفع بها لمراكز متقدمة. والســبب الرابع: وهو مرتبط بســابقه، أن الجماعــة تنتظر إعلان القوى الثوريــة الأخرى - مثل 6 أبريل والاشــترا­كيون الثوريون- مشــاركتها ونزول عناصرها إلى الشــوارع، الذين ربما هم بدورهم ينتظــرون المثل من الإخوان. لكن دعم الإخوان يظهر فــي التغطية المتميزة لهذه الاحتجاجات والمســيرا­ت، عن طريق قنوات الجماعة ومنصاتها الإعلامية، التي لم تترك الشعب المصري فريسة للإعلام السلطوي، الذي يسعى جاهدا لتسطيح الفاعليات والتهوين من شأنها، إضافة إلى جهود الجماعة في الفعاليات المعارضة في الخارج.

هــذا الحراك يلاحظ عليه أمران، الأول بعده عــن المركز إلى الأطراف البعيدة والمهمشــة غالبا، والثاني هو عدم وجود تنظيم ثــوري يقود الحراك، وفق خطة متكاملــة لإنجاح الثــورة والإطاحة بالنظــام أولا، والتعامل مــع مرحلة ما بعد الإطاحة بــه ثانيا. لكن في المقابل، الاســتمرا­ر في انتفاضة الأطراف من شــأنه تعاظم الضغط، وتشــتيت النظام وإفشــال مخططات الإعلام الرسمي للتغطية على المظاهرات، وهذا من شــأنه أن يُقوي شــوكة الجماهير التي كســرت حاجز الخوف، ومن ثم ينضم إليهم المزيد، إلى أن يحــدث تمدد تلقائي لرقعة التظاهر، يسهل بعدها الحشــد في أماكن مركزة، ومن ثم يكون المجتمع الدولي مجبرا على الاعتراف، بأن هناك ثورة في مصر. لكن يجب الاعتراف بأن الحشــد الشعبي لا غنى له عن قيادة منظمة، ومن وجهة نظري فإن استمرار التظاهرات إلى الجمعة المقبلة وبأعداد متزايدة، ســوف يكــون تأكيدا على أن الشــعب المصري تجاوز مرحلة التردد، ومن ثم ســوف تنضم الاتجاهات والقوى الثورية إلى المتظاهرين تباعا بشــكل رســمي، وتقود الفاعليات نظرًا لخبرتها الثورية، وتقوم باستثمار الحراك وتحويله إلى مسيرة وطنية للتغيير، وبلورة رؤية موحدة لإدارة مرحلة ما بعد نجاح الثورة.

وعلى الحشــود التي تحملت أعباء الخطوة الأولى في شجاعة، أن تتقبل هذه الضرورة الثورية، مع التأكيد على أن الجميع لا شــك قد تعلم من أخطاء الماضي، وأرى أنه حال مشــاركة الإخوان في الحراك الشعبي، ونجاح الثورة، فإن سقف طموحات الجماعة لن يتعدى الإفراج عن المعتقلين وإعادتها إلى الحياة السياسية مرة أخرى، بدون المغالبة على إدارة الدولة.

لا يبدو أن نظام السيســي الذي يحكم قبضته على مفاصل الدولة، كان يتوقع حجم واتســاع رقعة المظاهرات، رغم أعدادها القليلة نسبيا، وأنه كان على يقين من أنها لا تعــدو أن تكون زفرة جريح تنقطع، وجمرة ســرعان ما تنطفئ، ولكن بدأ القلق والارتباك يظهــران على تعاطي النظام مع المظاهــرا­ت، وبدا ذلك على إعلامييه الذين باتوا يتحدثون عــن الحوار مع المتظاهرين، لكنهم يحرصون في تناولهم للأحداث على أن يُظهروا الحراك على أنه مطالب فئوية، وليس رغبة في إسقاط النظام.

قام السيســي كالعادة باســتخدام ورقة الدين، فجيَّش المؤسســات الدينية الرسمية لإصدار الفتاوى والتصريحات بضرورة التوحد خلف القيادة الرشيدة في مواجهة الفوضــى والتخريب، لكن الجماهير لم تعــد تطمئن لأي جهة دينية رسمية في عهد السيســي. الأخطر من استخدام المؤسسات الدينية على الثورة، هو لعبته المعتادة في تجييش وتعبئة مؤيديه من القوى الحزبية ورجال الأعمال والظهير الشعبي له، للنزول في مسيرات كبيرة مؤيدة للنظام برعاية أمنية، وفي الميادين الكبيرة، لتغطي على الاحتجاجات، وتعطي صورة للداخل والخارج معًا بضآلة المعارضين وتمسك الشعب المصري بزعيمه. لذلك لا بديل للمتظاهرين عن الاستمرار في التظاهر وبالتكتيك نفسه، لأن التعبئة المضادة لن يطول بها الأمد، ويبقى الشارع لمن يستمر.

من وجهة نظري، لن يقدم السيسي تنازلات، تفاديا لزعزعة هيبة النظام، لأنه إذا حدث، فإنه سوف يعد انتصارا كبيرا للشعب المصري، سيجعله يعتاد النزول إلى الشوارع مع كل قرارات جائرة يصدرها السيسي، لذا فإنه من المتوقع في حال اســتمرار المظاهرات أن يتعامل الأمن بمزيد من البطش والقمع، لكن في اعتقادي أن الشعب كسر حاجز الخوف، خاصة وأنه تعرض بالفعل للقمع في عدة مناطق، وسقط منه قتيلان، ومع ذلك وحتى كتابة هذه السطور، لا تزال المسيرات الليلية تشــق ســكون الفضاء المصري. لكم الله، تواجهون نظاما فاشــيا، معه الجيش والشرطة والإعلام والقضاء والفاسدون من رجال الأعمال وظهير شعبي بعضه منتفع وبعضه مُضَلَّل، وتؤازره دول خليجية مناهضة لحريات الشــعوب، ومن خلفه تأييــد أمريكي صهيوني أوروبي، لكنكم أصحــاب حق، تدافعون عن حق، وتســعون إلى حق، وســيكتب التاريخ يوما أنكم حاولتم تحرير أرض الكنانة، وتحملتم الضربــات الأولى، فإن وُفِّقْتُم فســوف تُرفعون علــى الرؤوس، وإن قضيتم فســوف يُحمل ثراكم أيضا على الهامات، كل أحــرار الأمة معكم بقلوبهم ودعواتهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom