Al-Quds Al-Arabi

حياد لبنان: التحديات والفرص؟

- كاتب لبناني

حياد لبنان مسألة إشكالية في تاريــخ لبنان السياســي، تمظهرت بوجوه متعــددة لعل أحدثها دعــوة البطريرك الماروني مار بشــارة بطــرس الراعي إلــى اعتماده، بعد الانهيار المالي والاقتصادي، والانقســا­م السياسي الحادّ، اللذيــن أصابا البلاد في النصــف الأول من عام 2020 وما زالا ينعكسان على مختلف ميادين الحياة العامة.

واقعــات وتداعيــات شــتى ميّــزت حال لبنــان بعد الاستقلال سنة 1943، لعل أبرزها:

وجود تعددية عميقة ومرهقة في البلاد، قوامها أكثر من 18 طائفة تشكّل هيكلية النظام السياسي الكونفدرال­ي بما mechanism هوآلية لتقاسمالسل­طةوالنفوذو­المغانم.

جدّد أهل النظام الطوائفي الكونفدرال­ي لأنفسهم فـــي القيــادة والنفوذ، من خلال اعتمــاد قوانين للانتخابات، منافيــة لأحكام الدســتور، ولاســيما المادة 7 )مســاواة اللبنانيــ­ن أمام القانــون( والمــادة 22 )انتخاب مجلس نواب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف( والمادة 27 («عضو مجلــس النواب يمثل الأمة جمعاء».)

الامتناع عن تنفيذ أحكام المادة 95 من الدســتور، التي تقضي بـِ»إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية».

التمديد مراراً وتكراراً للمجالس النيابية بدعوى وجود ظروف سياسية وأمنية استثنائية ومقلقة.

الامتنــاع عن إقرار قانــون لضمان اســتقلال القضاء بوصفه سلطة مســتقلة، ما وطّد هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء.

جنوح الحكومات المتعاقبة في ممارســاته­ا إلى مخالفة أحكام الدســتور، ولاســيما لجهة الامتناع، لنحو عشــر سنوات متوالية، عن تقديم «ميزانية شاملةّ نفقات الدولة ودخلها عن الســنة المقبلة» (المــادة 83(، الأمر الذي أدى إلى تمكين المسؤولين الفاســدين من التلاعب بالمال العام، وصرف النفوذ والنهب والسرقة.

حشــر آلاف الموظفــن والمســتخد­مين فــي الإدارات والمؤسســا­ت العامة، دونما احترام لأنظمة التعيين، رغم وجود عجــوزات ضخمة فــي الميزانيــ­ات، والإمعان في الاقتراض من مصرف لبنان المركزي، ومن مصادر خارجية لتغطية العجوزات.

كل هــذه الواقعــات والتداعيــ­ات كشــفت حقيقتين صارختين تميّزان حال لبنان بعد 77 ســنة من استقلاله: الأولــى، أن لا دولــة لديه، بــل مجرد نظام سياســي هو عبــارة عن آليــة لتمكين المنظومــة الحاكمة من تقاســم الســلطة والنفوذ والمغانم. الثانيــة، أن نظام المحاصصة الطوائفي الكونفدرال­ي، تزعزع وأفلس وأن الانهيار المالي والاقتصادي الــذي يعانيه لا يهدده بالســقوط النهائي فحسب، بل يهدد الكيان ذاته بالتفكك والتداعي.

تحديات عدّة بنيوية، سياســية، دســتورية ودولية تواجه الدعوة إلى حياد لبنان، لعل أبرزها:

لبنــان كيان تعددي، حيــث لكلٍّ من طوائفــه كينونة وخصوصيــة، وبالتالي دور في تقرير السياســة العامة. ذلــك يتيح لأيٍّ من طوائفــه أن يعترض علــى اعتماد أيّ سياسة يرى أن من شأنها النيل من كينونته وخصوصيته ودوره في النظام السياسي.

ثمــة قيادات وأحــزاب وتكتلات سياســية وطنية، أو مناطقية تتبنى عقيدةً سياســيةً قومية، أزاء علاقة لبنان بمحيطه العربي. ذلك أن لبنان عضو مؤســس في جامعة الدول العربية ما يُلزمه، في رأي هؤلاء جميعاً، بأن يحترم ميثاقها وينفذ قراراتهــا وأن يكون، ملتزماً أحكام معاهدة الدفاع المشترك؟

لبنان مــا زال في حال حــرب مع «إســرائيل»، يحكم الأوضــاع والأحداث بينهما اتفاقُ الهدنــة المعمول به منذ سنة 1949. غير أن «إسرائيل» لا تحترم اتفاق الهدنة هذا، وقد شنّت على لبنان حرباً سنة 1982 وأخرى سنة 2006. وبينهما ارتكبت عدة اعتــداءات مدمرة. وعليه، لا جدوى من اعتماد لبنان سياســة الحياد، طالمــا أن ذلك لن يردع العدو الصهيوني عن ممارسة اعتداءاته.

ســوريا دولة عربية شــقيقة تحيط بلبنان من شرقه وشــماله، وهي في حال حرب مع «إسرائيل» وتقوم بدعم قــوى المقاومة اللبنانيــ­ة، التي تقاتل العــدو الصهيوني انطلاقاً من جنــوب لبنان، كما من جنوب ســوريا أيضاً. كل ذلــك يضع ســوريا في موقــف المعارضة الشــديدة لاعتماد لبنان سياسة الحياد، إذ تعتبرها تصبّ في خدمة «إسرائيل»، فضلاً عن تعارضها مع معاهدة الدفاع والأمن المعقودة بين البلدين سنة 1991.

ثمة مقاومة لبنانية ناشــطة ضد «إسرائيل» من لبنان، ولا ســبيل إلى اعتماد سياســة الحياد إلآّ بعد موافقتها ـ وهذا مســتحيل ـ أو بعد تجريدها من الســاح ما يشكّل دافعاً محركاً لتفجير حربٍ أهلية لا مصلحة للبنانيين فيها.

غيــر أن أصلب المعوّقات في وجه سياســة الحياد، هو افتقار لبنان إلى دولة بالمعنى السياســي والدســتور­ي والتنظيمي المتعارف عليه. فمــا نقع عليه في لبنان حالياً هو مجرد نظام سياســي متهــريء ومتصــدع ولا قدرة لمنظومته الحاكمــة وحلفائهــا على النهوض بمشــروعٍ

سياسي مصيري، كالحياد من دون تعريض البلاد لمخاطر أمنية مدمرة.

البطريريك الراعــي أدرك مبكراً التحديات التي تكتنف دعوتــه إلى حياد لبنان، فنراه فــي إحدى عظاته يعترف بأن وجود دولة قوية عادلة شرط لإقرار الحياد. ومع ذلك، لا يكف عن الدعوة إلى اعتماد الحياد بلا هوادة.

في ضوء الواقعات والتداعيات والتحديات والمعوّقات التي جرى عرضهــا آنفاً، يتضح أن لا فــرص متاحة أمام دعاة حياد لبنان لإقراره في الحاضر والمســتقب­ل المنظور. فالحياد قرار مصيري، متعدد الأبعاد والمتطلبات والمخاطر، ويستوجب وفاقاً وطنياً شــاملاً قابلاً للتوظيف في دولةٍ قادرة على اتخاذ قرار بشأنه. والحال أن البلاد تفتقر إلى دولة قادرة وعادلة، بل تعيش اوضاعاً مأزومة، سياســياً واقتصادياً واجتماعياً، وقد ازدادت تعقيداً بتطور الصراع في لبنان، إلى صراعٍ على ســاحته بين فرنسا والولايات المتحدة. الأولى طرحت بلسان رئيسها إيمانويل ماكرون مبادرة للتوفيق بين أطرافه المتنازعة قوامها تأليف حكومة اختصاصيــن من غير السياســيي­ن لتحقيــق إصلاحات إدارية واقتصادية، تســاعد في توفير قروض وتسهيلات مالية له. الثانية توسّلت الأزمة المستفحلة لفرض عقوبات على مســؤولين مقربين من قــادة سياســيين كبار بقصد إرهاب المنظومة الحاكمة، وحملها على الرضوخ لتســوية بشأن ترسيم حدود لبنان البرية والبحرية، تكون مؤاتية لـ »إســرائيل». إلــى ذلك، تبيّــن أن حقيقــة الصراع بين الدولتين الكبريين تتعلّق، ضمناً، بتركيب منظومة حاكمة جديدة تكون موالية وطيّعــة لإحداهما أو لكليهما، عندما يحين زمن البدء في اســتخراج واستثمار الكميات الهائلة من الغاز والنفط من مكامنها في المياه الإقليمية اللبنانية.

بات إســقاط النظــام الطوائفي الكونفدرال­ــي مطلباً شــعبياً مشــروعاً ومســتعجَلاً. غير أن تحقيقــه متعذر في الحاضر والمســتقب­ل المنظــور، لذا فإن المســار الآمن نحوه يكون بتفعيل الانتفاضة الشــعبية ضد أهل النظام الفاســدين، لإكراههم على التســليم بــأن نظامهم تآكل وانهار، وأنهم عاجزون عن تعويمه وإصلاحه.

أما أهل الانتفاضة فإنهم مطالَبون بالتعقّل، إذ لا جدوى من طرح شعاراتٍ غير واقعية وغير قادرين على تحقيقها. لذا يقتضي أن يركّزوا في حملتهم ضــد النظام الطوائفي الكونفدرال­ي، على رســم مسار لتغييره ســلماً وتدريجاً، لأن استخدام العنف لتسريع الإصلاح في مجتمع تعددي، كحال لبنان، يؤدي إلى تفجير حرب أهلية.

يطرح بعــض أهل القرار المســتنير­ين، فكــرة المؤتمر التأسيســي كمخرج من حال الاستعصاء وطريق لتحقيق التغيير والإصلاح ســلمياً. نعم، المؤتمر التأسيســي هو المخرج الأمثل من حال الاســتعصا­ء التي تراوح فيها أزمة لبنــان المزمنة. غير أن نجاحه مشــروط بكيفيــة تأليفه. وعلى هذا الصعيد، فإن الديمقراطي­ة هي بالتأكيد البوابة والطريق.. كيف؟

يتحدث بعض أهل القرار في هــذه الآونة عن ضرورة تأليف حكومة وطنية جامعة من سياسيين واختصاصيين مســتقلين، تكون بمثابة قاطرة للإنقاذ، وطليعة كاشــفة لطريــق التغييــر والإصلاح. حســناً، هذا خيــار مقبول شــريطة أن يكون في مقــدور هذه الحكومــة، في مرحلة انتقاليــة لا تتجاوز الأشــهر الســتة، القيــام بالمبادرات والإجراءات الآتية:

)أ( التوافق مع قــوى التغيير الوطنية على مشــروع قانون للانتخابات يراعي أحكام الدستور، ولاسيما المادة 22 )مجلس نواب على أســاس وطني لاطائفي، ومجلس شــيوخ لتمثيل الطوائــف( والمــادة 27 («عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء » ما يســتوجب الدائرة الوطنية الواحدة( والمــادة 95 («إلغاء الطائفية السياســية وفق خطة مرحلية») وخفض سن الاقتراع إلى الثامنة عشرة.

)ب( إحالة مشــروع قانــون الانتخابات الديمقراطي المتوافَــق عليه علــى مجلس النــواب لإقراره فــي مهلةٍ محــددة. وإذا امتنع المجلس، أو أخفق في ذلك لأيّ ســبب كان، يُصــار إلى تبنّيه من قِبَل قوى الانتفاضة الشــعبية والمباشــر­ة بضغوط شــعبية عارمة على الحكومة، بغية طرحــه بمرســوم جمهوري على اســتفتاء شــعبي عام لإقراره، وبالتالي لاعتماده وتنفيذ أحكامه، عملاً بنظرية الظروف الاستثنائي­ة التي تستوجب تدبيراً استثنائياً في حال نشوء ظرف استثنائي، وهو حال البلاد قبل كارثة 4 أغسطس وبعدها.

)جـ( إجــراء انتخابــات عامة، وفق مشــروع قانون الانتخابات الجديد، بغيــة توليد أول مجلس نواب يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته، فيشكّل بحدّ ذاته مؤتمراً تأسيسياً لإعادة بناء لبنان دولةً ووطناً.

هل كثيــر علــى القــوى الوطنيــة الحيّة، كمــا على المســتنير­ين من أهل القرار، اعتماد هذا النهج الديمقراطي الهادف للوصول إلى المؤتمر التأسيســي كمخرج آمن من حال الاستعصاء التي تأسر البلاد والعباد؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom