Al-Quds Al-Arabi

العربية القديمة... كيف السبيل لاكتشاف تطورها اللغوي؟

-

لقد شــغلت ومنذ زمن بعيد، بمحاولة فك أســرار، نشــوء اللغة العربية القديمــة وتطورها، وصولا إلى ألقها الحاضر وتوهجها، مع أن ما عثر عليه المنقبون مــن آثار تدل علــى بدايات ظهور هــذه اللغة، والزمن الــذي يفصل بينهمــا قصير جدا، إذا مــا وضعنا في الحســبان الفجوة الواســعة بينهما، بساطة وظلال لغــة، تقابلهــا لغــة مكتملــة الأركان رائعــة ناضجة، مازلنا نكتب بها ونقرأ، منذ خمسة عشر قرنا وإلى ما شاء الله، فقد حاول المعنيون باللغة العربية وفقهها، التعرف علــى بدايات هذه اللغــة وطفولتهــا، لكنهــم لــم يهتــدوا إلــى نصوص موثقــة تشــفي غليــل الباحــث عــن الحقيقــة، فليســت هنــاك نقــوش باللغة العربيــة، التي جاء بهــا الشــعر الجاهلي، بل هناك نقــوش لا يكاد يعتد بهــا، هي عبــارة عن مزيج من لغــات ســامية أخرى، إن أقــدم النقــوش التــي عثــر عليهــا المنقبــون مــن المستشرقين والتي تمكنوا من فــك رموزها، ترقى إلى المــدة الواقعــة بــن القرن الخامــس قبل الميلاد، والقرن الرابــع الميلادي، وهي النقــوش الثموديــة واللحيانية، نســبة إلــى قبيلتي ثمود ولحيــان، والصفوية التي عثــر عليها في تلال أرض الصفــاة، فــي منطقــة جبل الــدروز، وخطوط هذه النقوش تشــبه خطوط اللغــة العربية الجنوبية القديمة، التي تعرف باســم اللغــة الحميرية، وتكتب من الشمال إلى اليمين.

نقوش بالخط النبطي

كما عثر المنقبون على نقوش أربعة مكتوبة بالخط النبطي المتأخر، وهذه النقوش هي: نقش النمارة، إذ دوّن عــام 328 بعــد الميلاد - يراجــع كتاب )فصول فــي فقه العربية( لرمضان عبد التواب، ومحاضرات في فقه اللغة لحســام ســعيد النعيمي - وبالإمكان التعرف على هــذه النقوش، وقراءة بعــض ما فيها، خاصــة نقشــيّ حــرّان وأم الجمــال، لأن صورهــا منشــورة في العديد من كتب فقــه اللغة العربية، لأن حروفهــا قريبة مــن الحرف العربــي، ويعتقد بعض الباحثــن، أنهــا همــزة الوصل بــن الخــط النبطي القديم، والخــط العربي بعد ظهور الإســام. إن هذه الظاهرة اللغوية العجيبة، مما يحير العقول والألباب، إذ إن هنــاك ثغرة كبيرة - لــم يتوصل الباحثون إلى فك أسرارها ودراستها حتى الآن- بين هذه النقوش البدائيــة، التي لا توضــح صورة عن حيــاة أهلها أو مــا يقرب من هذه الحيــاة، بل هي عبــارة عن نقوش علــى القبــور أو الكنائس، تكثر فيها الأســماء، لعلها أسماء الموتى أو أسماء من أســهم ببناء دار العبادة هذا، وبين تلك اللغة المشــرقة الموحية المتكاملة، نحوا وصرفا وبناء وإعرابا، التي جاء بها شعر العرب في العصر الجاهلي، أو تلك التي نزل بها القرآن الكريم، كيف السبيل إلى وصل هذا بذاك؟

هل هناك نقوش ظلت مطمورة تحت التراب تنتظر من يشمر عن ســاعد الجد، ليزيل عنها التراب ويفك

رموزها؟ ولماذا أقــول يفك رموزها، ولا أقول يضعها ضمــن ســياقها من التطــور اللغــوي الذي مــرت به العربية؟

نقش النمارة يعود عهده إلى ســنة328 بعد الميلاد - كمــا قــال المنقبــون من المستشــرق­ين- والشــعر الجاهلــي الذي بــن أيدينا يرقــى عهده إلــى مئة أو مئة وخمســن أو مئتي سنة قبل الرســالة المحمدية )نحو 611 م( إن الذي يفصل بين هذه اللغة المشرقة، وتلــك النقوش التي فيها لمحــات عربية، مدة قصيرة

جدا، لا تزيد على القــرن من الزمان، هل إن هذه المدة القصيرة، كانت كافية لبلورة اللغة العربية، وجعلها تصيــر إلى ما صارت إليه، وما وصلنا من نصوصها القديمة؟ هل يصح هذا؟ وهل يقبله العقل؟

كثيرا ما تساءلت كيف تسنى للعربي البسيط ابن الصحراء، أن يُوجد هذه اللغة المشرقة؟ كيف توصل إلى رفع المبتدأ والخبر والفاعل واســم كان وخبر إن ونصب المفاعيل والحال، وكيف توصل إلى الترخيم والندبة؟ هل حدث هذا مصادفة؟ أم بفعل عقل راجح مبتكر حصيف، ومن هــو صاحب هذا العقل المبتكر، بل من هم أصحابــه؟ لماذا غفل عنه التاريخ أو أغفله، أو غفل التاريــخ عنهم أو أغفلهــم، والعرب أصحاب حافظة قوية، سواء في النثر أو في الشعر؟

لو سلمنا جدلا بحصول الذي حصل - في مجال نحو اللغة وقواعدها- شــمس مشرقة تشرق هكذا، وينتهــي الأمــر، هل لنــا أن نطبــق ذلك على نشــوء اللغــة ونمائها؟ أمام هذا التســاؤلا­ت، التــي لم أجد لها جوابــا حتى الآن، لم يبق أمامنا ســوى افتراض واحد هو: الشــك في صحة هذه النقوش، الشــك في

صحــة العهد الذي ترجــع إليه، إننا لــو ملنا إلى رأي المستشــرق إســرائيل ولفنســون في كتابــه «تاريخ اللغات السامية»: «لذلك يحتمل أن تكون هناك بعض نقوش، علــى الأحجــار والصخــور، أو كتابات على الرق لم تكشــف بعد...» فإن المدة التــي تفصل ـ كما قلت- بين هذه النقــوش واللغة الرائعة التي وصلت إلينا، لا تسمح بمثل هذا التطور.

أكاد أميل إلى أن نقوشا عربية خالصة لم تكتشف بعــد، فالنقوش التي عُثر عليها، هي في مواقع بعيدة عن الجزيرة العربية، وقد يأتي الوقت الذي تكتشف فيه، وعند ذاك سيتمكن الباحثون من متابعة التطور اللغوي لها.

وقــد أعادت إلى ذهني هذه التســاؤلا­ت ثانيــة، قــراءة متفحصــة للبحــث اللغوي المهــم، الــذي جــال فيه هاشــم الطعــان ) ‪(1981 1931-‬ وصــال، وأعنــي كتابــه «الأدب الجاهلــي بــن لهجــات القبائــل واللغة الموحدة» الذي نشرت وزارة الثقافة والفنــون العراقيــة طبعتــه الأولــى، ســنة 1978، الــذي يــرى أن: «أيا مــا كانت أهمية هذه النقوش لدراســة تطور الخط العربي،

فإن أهميتها في دراسة اللغة العربية القديمة ضئيلة، لأنها متأخرة تأريخيا بالنسبة للتأريخ المفترض لهذه اللغــة، ولأن مناطق العثــور عليها بعيــدة عن الوطن المفتــرض لهذه اللغة، ولأنهــا لا تحمل من خصائص هــذه اللغــة إلا القليل، وبأســلوب لي عنــق الحقائق أحيانا .»

يفترض هاشم الطعان، ولا يقرر لأننا ما زلنا نخمن ونفترض لقلة الحقائــق العلمية التي بين أيدينا، كي نقــرر، يفترض أن اللغــة العربية القديمــة، وهي غير اللغــة العربية الفصحــى أو الفصيحــة التي وصلت إلينــا، العربيــة القديمــة واللغــة الأكدية شــقيقتان، وانفصلتــا بالهجــرة، ويفتــرض أن الشــطر المهاجر هو الذي سيســرع إليــه التغيير، لأنه اســتوطن بيئة جديدة، واســتوحى مفردات جديدة مــن لغات أخَر، وإذ يــرى أن الأكدية كانت أكثر تطورا من شــقيقتها العربيــة القديمة، لكنه لا يعــزو التطور للأكدية فقط، بل هو يرى إن العربية التي كمنت في موطنها القديم الواقع علــى حافة الصحراء، تطورت أيضا. لكن كما تســاءلت أنا منذ عقود، كيف تسنى للعربي البسيط ابن الصحــراء، أن يوجد هــذه اللغــة المشــرقة المكتملــة؟ فــإن الباحــث هاشــم الطعــان، يطلــق تســاؤله:» ولكن هذه اللغة البدويــة الكامنة في قلب الجزيرة العربية، خرجت بعد آلاف السنين، وبشكل فجائي غنية بمفــردات حضارية، ونهضت بأدب من أروع الآداب، فكيــف كان هذا؟». وإذ يســعى الطعان إلى إيجاد تفســير لهذه الظاهرة المعضلة، فإنه يلجأ، أو يلتجئ إلى بعض الدارسين، عله يجد شيئا، لكن ها هو الباحث الفرنسي ) إيرنست رينان1892)1823- يعلن عجزه عن تفســير هذه الظاهرة، قائلا إنها غير قابلة للتفســير، كما يســتنطق الباحث دورم- الذي لم أعثر علــى ترجمة لحياته، حتى بعــد أن عدت إلى معجــم المستشــرق­ين للراحل عبد الرحمــن بدوي ت 2002- فما وجــد لدى دورم جوابــا محددا عن هذا الموضــوع: «إذ عــزا ذلــك إلــى الصلات بينهــا وبين الأكديين مفترضا أن يكون ناس من الكتبة البابليين، قد عــادوا إلى الجزيرة، وســاهموا بحفــظ كثير من الخصائــص اللغوية، ثم يتســاءل دورم، ولكن بأي طريــق مكتــوب أو شــفوي وصل هــذا التقليــد إلى الصناع الأوائل للعربية الفصحى؟ هذا هو الســؤال الــذي لا نملــك الآن العناصــر الكافيــة للإجابة عليه إجابة موضوعية .»

زيد فيها شيئا فشيئا

لقد راجعت )باب في هــذه اللغة: أفي وقت واحد وضعــت أم تلاحــق تابــع منهــا بفارط؟( عســى أن أجد لــدى أبي الفتــح عثمان بن جني ما يشــفي غلة الصــادي، فما وجــدت، إذ يرى أبو الفتــح بن جني: «إنــه لا بــد أن يكون وقع فــي أول الأمــر بعضها، ثم احتيج في ما بعــد إلى الزيادة عليه، لحضور الداعي إليه، فزيد فيها شــيئا فشــيئا، إلا إنــه على قياس ما كان ســبق منهــا حروفــه، وتأليفــه، وإعرابــه المبين عــن معانيــه، لا يخالــف الثانــي الأول، ولا الثالــث الثانــي، كذلك متصلا متتابعا، وليس أحد من العرب الفصحــاء إلا يقــول: إنه يحكــي كلام أبيه وســلفه، يتوارثونــ­ه آخــر عــن أول، وتابــع عن متبــع» كتاب )الخصائــص( صنعــة ابي الفتــح عثمــان بن جني (392ه( تحقيق محمد علي النجار. مشــروع النشــر العربي المشترك. الهيئة المصرية العامة للكتاب- دار الشــؤون الثقافية العامة. بغــداد. وفي خاتمة بحثه هذا، يعود الراحل الباحث هاشــم الطعان ليؤكد إنها رحلة مضنيــة في تاريخ اللغة العربية منذ انفصامها عن شقيقاتها الســاميات، وخلال فترة كمونها التي اســتغرقت آلاف الســنين في قلب جزيرة العرب، ثم ظهورهــا فجأة كما تســطع الشــمس، حاملــة أقدم وأغنى الخصائص الســامية القديمــة، مضيفة إليها خيــر ما اكتســبت من اللهجــات التي انشــقت عنها، وتطورت تطورا بطيئا مســتقلا وأفــادت من اللغات المجاورة، ثــم تكون اللغة الفصحى التي وصلت إلينا النصــوص الأدبية الجاهليــة بها، واســتمرار تكون اللهجات التي تركت آثارها على الأدب الجاهلي.

وبهــذا لم نحصــل على جواب واف شــاف، رادم لهــذا الفــراغ الزمني بــن اللغتين: العربيــة القديمة، والعربية الموحدة التي نكتب بها حاليا ونقرأ.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom