Al-Quds Al-Arabi

خِطَابُ فخَامَتِهِ

- ٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

أقرأ فــي مقال قــديم للصحافية البلجيكيــ­ة ماريال لوفافــر كتبته في «فيــف أكســبريس» ‪Vif l’express‬ عــن أشــهر الخطابات السياســية العشــرة فــي العالــم، فاختــارت خطابات غانــدي وتشرشــل وروزفلت وديغول وكنيدي ومارتــن لوثر كينغ ومانديلا وريغــان وأوباما. بالطبع يمكــن لأي كان أن يختــار خطابات أخرى يعتبرها الأشــهر وفق مقاييس ضمنية أو صريحة مختلفة. لهذا فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن وأنت تطلع علــى هذه الخطابات الأبــرز: ما الذي يجعل خطابا سياســيا خالدا على مرّ السنين؟ أهي المناسبة التي قيل فيها؟ أهي جراءة الكلام وتكسير ســن الخطاب السياسي المحافظ؟ أهي القدرة على الإقناع التي تقوي من قيمة الخطابة في الخطاب السياســي، أم هي بلاغة المناسبة التي تضفي على بلاغة الخطاب قيمة؟

لــم تختر لوفافر أي خطاب عربي، حتى لــكأن العرب لم ينتجوا في ما يقــرب من قرن من ممارســتهم الخطابات السياســية فــي النضال، وفي الحكم، خطابــات لها طابع أممي، أو حتى لكأن السياســات العربية التي وضعت في واجهــة الأحداث العالمية رموزا سياســيين عالميين، لم ترتبط رمزيتهم تلك بخطابات سياسية كونية.

أصحــاب الفخامة، الذين وصلوا إلى الرئاســة بالتداول الســلمي، أو بالانقلاب العســكري يجدون أنفسهم مضطرين على إلقاء الخطابات في المناســبا­ت الرســمية، أو الحادثة. ينتظر الناس بنســب متفاوتة أن يلقي الرئيــس كلمته، وغالبا مــا يصابون بالاحبــاطِ. هذا تاريــخ رد الفعل مع خطابات أصحاب الفخامة، لا في التاريخ العربي السياســي الحديث، بل في التاريخ السياسي العالمي. التحشيد لخطاب فخامته قبل الإلقاء يخلق آفاق انتظار يبددها في الغالب خطابه، فيأتي التحشــيد بعد الإلقاء للحد من موجة الســخط أو اليأس أو المعارضة الخفية أو المعلنة. بعد أن يتنحى فخامتــه يذكره الناس بأشــياء منها، قدرته أو عــدم قدرته على الخطابة. هناك شــيء يشــد الناس إلى الكلام فــي الخطابــات، أو ينفرهم هو هذه القدرة على التأثير.

الخطاب السياســي يرتكز على أساســيْن: الخطابة أو البلاغة، وليس الأساســان متفقين مثلما نبينه لاحقا. لنكن واضحين من البداية كي نقرر أن الخطابات السياســية هي خطابات لا بد أن تجــد ظالتها في الخطابة، ولا تبحث عنها في البلاغة. لست مطالبا كي تكون خطيبا سياسيا ناجحا أن تكــون فصيحا مفوها، بل أن تكون محاججا مقنعا، هذا مفتاح مركزي يفتح للساسة نجاحهم أو فشلهم على مرّ التاريخ.

مــا من خطــاب سياســي إلا وهو موجه إلى مســتمع، فعليــه كي يقنع بقــرار أو بموقــف ويحمــل بالتالــي على أن يوافــق بعد الإقنــاع بجدوى ذينــك القرار أو الموقــف، ليس في الأمر تصنيف للجمهــور بالمعارضة، أو الولاء، على السياسي أن يقنع في خطابه أو لا يقنع، وعلى خطابه أن يتبع اســتراتيج­ية في الإقناع تجــد عناصرها في الخطابــة )بالمعنى اليوناني القديم( ولا تجده في البلاغة )بالمعنى العربي القديم(.

يخرج الخطاب السياسي عن دائرته الخطابية الأساسية، حين يتوهم الخطيب السياســي، أنه لا يخاطب معارضين، بــل يخاطب موالين عندئذ تخرج الخطابات السياســية إلى البلاغــة بخروجها من الرغبة في الإقناع إلــى الرغبة في الإمتاع القولي، أو إلى الواجب الثقيل في صنع قول رتيب بمناســبة رتيبة. يخطئ أصحاب الفخامة حين يعتقدون بعد فوزهم أنهم يخاطبون موالين يحســبونهم بعــدد الأصوات التي فــازوا بها. الجمهور فــي أي خطاب سياســي هو جمهور غيــر جمهور الصنــدوق، هو جمهور من يريد أن يقتنع بمشــروع، أو فكرة، أو حلم يمكن أن يظل المســتمع على حلمه، ولكنه سيســتيقظ ذات خطاب لا يتناسب مع الفعل المنتظر. شعب الخطابات السياسية هو شعب المراقبين المنتقدين، لا المنتخبين الموالين. لا يوجد موالون إلى الأبد في السياسة، وعلى الخطابات السياسية أن تقنع كي تثبت الولاء العقلي لا القبلي أو الحزبي.

لننظر في أشــهر خطابات أصحاب الفخامة والزعماء في التاريخ، في ضوء ســيطرة الخطابــة والقناعة علــى البلاغة والإيهــام بالجميل. فهذا تشرشــل رئيس الوزراء البريطاني خطب إبان توليه الرئاســة سنة 1940 والحرب الكونية تضع أوزارها، وبدلا من أن يعد شــعبه بالنصر وبالرفاه والراحة وعدهم بـ« الدم والدموع والعرق والتعب». سيســمي الناس هذه النزعة في الخطاب السياســي بالواقعية، وبعض ساستنا اليوم يميلون إليها عند تولي الســلطة، ويســمون ذلك مصارحة للشعب كأن الشعب لا يعــرف واقعه وهو يهوم في أطياف أخرى. قوة خطاب تشرشــل ليســت في هذه الكلمات، بل في اســتعماله­ا في ســياق خطابي حجاجي، إذ قدّم الدم والدموع والعرق والتعب ثمنا لغد أفضل: ليست هذه وعودا منتظرة، إنمــا هي وســائل فعل وطرائــق عمل من أجــل الغد الأفضــل، لا يمكن أن تعيش إن أنت لم تحرك ســوائلك الحيوية الثلاثــة فيك دما في الدفاع عن الوطن ودموعا على من ضحى وعرقا يصب في الجهد المحرك للتاريخ.

عام 1958 ألقى شــارل ديغول في الجزائر، التي كانت تحتلها فرنســا خطابــا قــال فيه جملتــه الشــهيرة «لقد فهمتكــم» في هــذا الخطاب قال ديغــول: «أعرف ما حدث هنا، وأرى مــا تريدون القيام به، أرى أن الطريق الذي فتحتموه فــي الجزائر هو طريق التجديد والأخوة». لقد كانت جملة ديغــول مهمة، فهــي بغموضها طمأنت الجميع، لأن ضميــر الجمع لم يقع على أي من المتخالفين حد الحــرب. يمكن أن يفهم الجزائريون أنه يعنيهم هم، ويمكن أن يفهم الفرنسيون والأوروبيو­ن واليهود أنه فهمهم هم دون غيرهــم. حجاجية اللبس فــي اللعب الوقتي على ســوء الفهم، أو قل على الفهم المتعــدد، قوته لا في نجاعته ذات المدى الطويل، بل على نجاعته في لملمــة الفرقة وقتيا. لم يفعل ديغول أي شــيء، ولكنه أقنع فقط بالخطابة المبنية على اللبس. بعد ذلك بنصف قرن يزيد اســتعمل الرئيس التونسي الأســبق زيــن الدين بن علي عبــارة « فهمتكم» نفســها حين كان الشــارع يمــوج. لكن عبارته لم تؤت أكلها فهي لم تســتطع أن تلعب على الغموض، كمــا لعب عليه ديغول في إقناع المحتجين لأن كلامه لم يكن يحتمل أمرين، كان يفهــم منه المهادنــة الوقتية الواضحة. كانت حجة عليه فقال أبســط الناس يومها، إن الوقت كان معك ولم تفهمنا، أما الوقت الآن فليس لك.

استعادة أصحاب الفخامة الجدد، لأساليب أصحاب الفخامة القدامى في الخطابة، وربما في الســلوك أمر معلوم، غير أن الإشــكال أن هناك من ينجح في الاســتعاد­ة وهناك من لا ينجح. نجح باراك أوباما حين استعاد في حملته الانتخابية الأولى خطابات كنيــدي والزعيم مارتن لوثر كينغ. كان كينــغ يقول : «أنا لي حلم » فلما خاض أوباما حملته قال : «أنا الحلم .» كان حلم كينغ أن يتمكن الســود مــن الأصول الافريقية من الحصول على حقوقهــم، وكان أوباما تحقيقا لذلك الحلــم. ليس في جملة أوباما بلاغة، بــل فيها حجاج الخطابة، حجــاج فيه إيقاظ للوعــي النضالي ورفع راية: ناضلنا يا شعبنا وانتصرنا على تفرقتنا، لذلك قامت العبارة المفتاح على

تغيير في نســبة الحلم: كان الحلم في خطاب كينغ منسوبا إلى مالكه، فصار في خطاب أوباما منسوبا إلى المخبر عنه، خرجنا من نسبة حقيقية إلى نســبة استعارية، استعارة أنا الحلم هي استعارة مفتاح في خطابات أصحــاب الفخامــة: إنهم يملكــون مفتاح العبــور إلى الســعادة، لكنها لم تكــن كذلك في خطــاب أوباما: هي تعنــي أني أنا حفيد لوثــر كينغ، الذي حلــم ونجح الشــعب في تحقيق حلمه لــه: ليس بين الحلــم والتحقق غير مســافة قصيرة: أن تضع ورقة تصوت لهــذا الحلم في صندوق الاقتراع، بالإضافــة إلى ذلك اســتعاد أوباما قول كنيدي مــن أن المواطن ينبغي ألا يســأل: ما تفعله بــادي لي، بل ما أفعلــه لها؟ أنا أيضا أســأل البلد على مسمع من صاحب الفخامة: ما فعلت لكَ يا بلدي؟

 ??  ?? توفيق قريرة٭
توفيق قريرة٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom