Al-Quds Al-Arabi

متى يتنحى الشاعر؟

- ٭ كاتب من سوريا

وصل الكثير من الشــعراء الكبار إلى قمتهم الشعرية وتوقفوا فجــأة أو ماتــوا شــعريا، وربما ســقطوا من على عرش الشــعر وتركــوا المــكان لغيرهم غيــر آبهين بتبعــات نفســية وثقافية, هؤلاء لم تكن قرارات نزولهم عن عرشــهم الشعري محض قرار شــخصي أو دافع ذاتي بغــرض اتاحة الطريق لشــعراء اخرين الذين قد يبدون أقل شاعرية ومكانة وشهرة وتأثيرا في المشهد الشــعري. وألــن تكون فــي قمتك وفجــأة بقرار طائــش عجول تتوقف عن كل شــيء بطلقــة في الرأس، كما حــدث مع .. خليل حاوي ومايكوفســ­كي ورامبو، في انتحارهم البطئ حيث انزوا في أمكنة مظلمة منســيّة, كما هو الحال لبعض الروائيين الذي كتبوا رواية خالدة واختفوا بعدها.

لكن يبقى هناك سؤال اشكالي يظــل يطــرح نفســه وهــو لمــاذا ابتعد بعض الشــعراء عن الكتابة الشــعرية وقــد كانــوا فــي أوج عطاءاتهم الإبداعيــ­ة, هل تنحوا وتركــوا المشــهد لأنهم لــم يجدوا ما يستحق الكتابة أو لم يعد هنك طائل من الكتابــة الغوغائية التي لم يســتطيعوا الكتابة عنها عندما يتألمــون ولــم يســتطيعون البوح بألمهــم أو عندمــا تتعبهــم الحياة فلــم يقــدرون علــى مواجهتهــا ومقاومتهــ­ا بالكتابــة، أو حينمــا تفلــس القصيدة أو تخــون مثلما تخون حنجرة المغني بعد زمن من الانقطاع.

٭٭٭ قــد تكون الحال في بســاطتها مجرد نزوة أنانيــة ـ الأنا الغارقة في عمقها, ساعية لشهرة عابرة دون جهــد يبــذل ـ فيتعامــى عن قضايــا مجتمعية كبيــرة ويفقد هيبتــه عندما يكــون مخيّرا بين القبول بواقع أو رافضا له.

لكــن لمــاذا ظل هــؤلاء الشــعراء منارات مشــعة رغــم أنطفاء حياتهــم؟ لمــاذا بقــوا شــعراء رغــم تقلــب الأزمنــة والعصــور والأمزجة, لماذا مازلوا على عرش الشــعر؟ يسأل ويجيب الناقد أحمد علي هلال .. «كثيرا ما يدور سجال طريف وأسئلة من مثل: هل يتقاعد الأديب أو الشاعر اذا أردنا التخصيص، أسئلة ماكرة ومخاتلة وذات طبيعــة معرفية على الأرجح.. التنحي، الإفلاس، انتهاء الصلاحية، كلها تستأنف تواتر الموات الذي الذي بشرنا بــه النقد الحديث، موت المؤلــف، موت الناقد، ومــوت القاريء. نقــول تنجز التجربة بموت الشــاعر جســديا لكنهــا تنفتح أكثر

للقراءة فقــد أصبح هو نصه، وبعض الشــعراء ينكفؤون وربما ينهــون حيواتهم كحــال الشــاعر الراحل خليل حاوي وســواه كثيرون .»

فهل يعني ذلك إفلاس تجربتهم ليدفعوا بأنفسهم للتنحي، أم ثمــة موقف من قضية ما بعينها؟ عمليــا يملك كثيرون هذا القرار ــ عاطفيا ــ ومجازا لكنهم الأكثر تشــبثا بالحياة، وأنقل السؤال لضفــة أخرى .. متى تنتهي صلاحية قراءة أثر شــعري لشــاعر توقف عطــاؤه، انكفاء أو اعتــذارا؟ هل هي الذائقة فحســب من ترفض توثين الاســم، اذن تحمل الأســئلة هنا مشروعية بمعنى ما، لتضع المنجز قبل الشــخص على طاولتها، واذا كان بفرضية معللة لشــاعر أن يعلن إفلاسه الشــعري ــ وهذا سيكون ــ غريبا

بعض الشــيء، فهي نقلة فــي الوعي ومكاشــفة جريئة، وأقول مســتطردا، ثمة خيانات للغة والأقلام والأعمار، نتاجها سيكون أقرب لتنحٍ غير معلن أو إفلاس مســتتر علينا استبطانه وتأويله ثقافيا ومعرفيا قبــل الحاجة لتأويله ســيكولوجي­ا واجتماعيا. أتذكر رامبو الذي كتب قصائده المجنونة قبل بلوغ العشــرين ثم ترك الشعر، ولا ندري لذلك سببا!

يبــدو لي أن الشــاعر عامــة لا يعترف بنهاية عمره الشــعري، فيكتب ما هبّ ودبّ، معتمدا على تاريخه الشــعري الحافل، مثل التاجر المفلس الــذي يعود إلى دفاتره القديمة. مرة كتب محمود درويش أنّه لم يقرأ للبياتي منذ عشــرين عاما. وهذا اعتراف من شاعر كبير بنهاية البياتي شعريّا.

من خــال متابعتــي لبعض الشــعراء رأيتهــم يغادرون الســاحة وقد خســروا كل أســلحتهم، وفقــدوا مبــرر وجودهم مثل نزار قباني، فلم يقل شــعرا قبل وفاته بعشرين عاما.. وهذا يصح أيضا على سعدي يوسف الذي تراجع شعريّا.

ففــي حوار مع نزار قباني عندما سُــئل .. متى تســلم مفاتيح الشعر ولمن تســلمه؟ رد نزار بجواب دبلوماسي: عندما يطفئون عليّ الأنوار في المســرح وحين الجمهور لا يريدونني على المسرح فلا شــعر بالاغتصاب. عندهــا ألبس معطفي وأخــرج من الباب الخلفي من المسرح. ولــو أعدنــا الســؤال نفســه الآن، نجــد إجابة الشــاعر علاء زريفــة، بطريقــة هــي أقــرب إلى ايضــاح منها إلى الجواب يقول .. إذا كان الشــعر عرشــا او ســلطة أو حتى كمركز ما يجعلــه يقابل ضديا مفهــوم الديكتاتور­ية السياســية وليس أقرب من الشــاعر والمفكر السوري أدونيس على هذا النموذج من الطغاة الشــعريين الذين يحاولون ممارســة الوصايــة علــى التجــارب الشــعرية بمنحها القبول او الرفض او التجاهل في أسوأ الأحــوال، وهذا يدل أن شــعار المثقــف العربي عموما «أنا الثقافة والثقافة أنا». هذه الســلطة التــي وكمــا تخلــق طواغيتهــا تخلــق بالمقابل جمهورها ومريديها وقطعانها.

وليس أكثــر فجاجة من الزوبعة التي أثيرت بعد مقال الشــاعر الســوري ســليم بركات عن علاقته بالشــاعر الفلسطيني محمود درويش، فبــرز عــدد مــن العصابيــن الذين دافعــوا أو أنكــروا، وكأننا أمــام أصنام كهنوتيــة ثقافية بلغت درجة القداســة، بحيث لا يجب أن تواجه بنقــد أو اجتهاد، وهذا تناقض يكشــف الخلل البنيوي لــدى القارئ العابد وســطوة الطاغية المكرس في آن.

٭٭٭ هناك قضايا أخرى تنبثق من هذه القضية منها قضية الشاعر اللاشــاعر منذ ولادته، لكنّه يظل فارس الساحة يصول ويجول بسيفه الخشــبي على طريقة دون كيشــوت مصدّقا نفسه ومن يمدحه ويحمــده من نقّــاد، مجاملة أو طمعــا أو خوفا. فمفهوم التنحــي هنا يقــع على الذات الشــعرية نفســها، لا علــى المكانة او الكاريزمــ­ا المكرســة، فالشــعر بغض النظر عــن خيانة بعض الشــعراء، يبقى منزها عن الاســماء والألقاب التي أثبت الواقع الاستهلاكي للثقافة اليوم مدى هشاشتها.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom