Al-Quds Al-Arabi

كوليت خوري: أنا الشام

- ٭ كاتب من سلطنة عُمان

حلمت بالكثير من المدن مع بداية تفتح الوعي في مراهقتي، عرفت بيروت وبغداد والقاهرة والقدس، وتمنيت في إحدى المرات ان أصبح هنديا لتأثري بموسيقاهم ورقصهم، وقصص الحب اللامتناهي­ة في أفلامهم الســينمائ­ية، ودمشــق كانت محطة خاصة في احلامي، فهي مدينتي الســرية التي لجأت إليها طائرا بجناحين من حروف، وكتبت حكاية عشقي الأولى مع الحــرف بكلمات أدباء هذه المدينة.. وكأني ذلك العاشــق المجهــول الذي حفــر عبارة اذكرينــي دائما علــى الصخرة الشهيرة في جبل قاسيون..

تأثرت بكتابات نزار قباني ومحمد الماغوط وغــادة الســمان وكوليت خوري وسواهم، عشــت في المدينة العتيقة عبــر كلماتهــم التي زرعت في قلبي كل أزقة وضواحي دمشــق، ووعيت ذات يوم أنهم خلقوا بداخلي حنينا لمدينة لم أعرفها، وسكنتها ولم أسكنها، تســكعت في حاراتها بدون أن أراها، إلا مــن خلال الكتب، وكنت أقســم في كل ليلة أنها مدينتي، كمن يعتقد أنه دمشــقي في الزمن الأول، حســب المعتقد عند الذيــن يؤمنون بتناسخ الأرواح، ولم ينتزع ذلك مني انتمائــي لوطني يومــا، ولكنه خلق لديّ انتماء أكبر للإنســاني­ة، وهكذا أصبحت ابنا لكل الحضارات .

لا تغيــب عــن الذاكــرة الكلمــة المؤثرة لكوليــت خوري، وحضورها الأســر في مئوية الشاعر سعيد عقل مفتتحــة كلمتهــا بالقــول: «مرّ بي الزمن طاويا فــي أيامه صفحات من عمري، صفحات تبدلت فيها المفاهيم، تدهورت فيها المبــادئ، تلونت فيها الأجــواء، صفحــات خســرت فيها أحلامــا، دفنت فيها آمالا، ودعت فيها أحبــاء، في كل يوم في كل صفحة كنت أحيــا مرة وألف ألف مــرة أموت». وتضيف مستوحاة من أشعار عقل الدمشــقية: )أنا الخلفية الأنثوية العريقة لكل حب عاشــه ســعيد عقل في حياته «أنا الشام.» أنا تلــك التي غازلها بحروفــه جنة على أجنحــة الطير «أنا الشــام» تدفق بردى سندس الغوطة شــذى الورد(. عانقت الشــام بيروت مرة جديدة حين التقى صوت صاحبة ديوان «عشــرون عاما» (1957( مع قصائد سعيد عقل، وهي تلقيها بأداء يضيف لمسة جمالية ســاحرة عبر أثير إحدى الاذاعات السورية، وهنا أعترف بأني عاشــق لحنجرة كوليت سهيل الخوري، أو خولة بنت سهيل، كما كان يطيب أن يسميها جدها رئيس الوزراء الســوري فارس الخــوري، فمخارج حروفها

معتقة بلكنتها الشامية، وبقدر حبي لحرفها وتجربتها الأدبية أحببت صوتها على الرغم من أنهــا القائلة: «لا أحب الصّراخ بحنجرتي، فصرخــت بأصابعي وأصبحــتُ كاتبة». وخلال الأشــهر القليلة الماضية غابت كوليت خــوري عن الإطلالات المرئية والمســموع­ة، وكمتابع للحركة الأدبية شغل بالي ذلك الغياب، متمنيا أن تكون صاحبة رواية «ومرّ الصيف» بكامل صحتها وعطائها.

لا أعرف كيــف داهمني ذلك الفضول بإصــرار للاطمئنان على صاحبــة أولى نســمات الحرية في دمشــق، رغم عدم

وجود أي وســيلة تواصل بيننا .. فما كان مني إلا الاستعانة بصديقة تعمل في الصحافة الســورية حتــى تزودني برقم هاتفها.. وجاء صوتها الدمشــقي منبعثا من سماعة الهاتف، منبتا حولي أشــجار الياســمين والنارنج والكبــاد، ولوهلة شــعرت بأني في دمشق القديمة أتوسط أحد البيوت العربية العريقة، وأمامي النافورة أو البحرة، كما يسميها أهل الشام.. كانت السيدة كوليت كما توقعتها دافئة ووديعة ومحبة.. في دقائق كنت كمن يعرفها منذ ألف عام.. وجدتها بدون مقدمات تطلب عنوان البريد الخاص بــي، حتى تهديني مجموعة من كتبها، خجلت أمام ذلك الكرم المشــهور عن جيلها من الكتّاب والمبدعين، والأخلاقيا­ت التي نفتقدها اليوم.. ذكرتها ببعض ما كتبت عن دمشــق ومنها أحد النصوص الــذي تقول فيه: «تعبت من خيالي يعمّر دمشــق، وتعبت من دمشــق تدمّر خيالي» لأجدهــا تــردد الجملــة معــي، وتكملها وتفاجــات وأنا أحدثها عن مقال منشــور لغادة السمان في صحيفة «القدس العربي» وهــي تدعوها للعودة للكتابة قائلة: كوليت خوري المحاربة القديمــة: أين أنتِ؟ منذ اليوم الذي رحلت فيه كريمة «خوري» الشــابة نارة قلت لنفســي: «هل ستســتطيع كوليت الوقوف على قدمــي أبجديتها بعد تلك الضربــة. وفعلت. وذلك يدعو للاحتــرام ولكنها توقفت عن الكتابة قبل عشــرة أعوام وكان أخر كتبها كما عرفت من ويكيبيديا ـ الموســوعة الحرة، قد صدر عام 2008 وهو «عبق المواعيــد».. عودي يا كوليت فرفيقاتــك المحاربات القديمات مثلي يفتقدنك، كما القارئ الذي أحب أبجديتك في «أيام معه .»

كما تجيــب الاديبة غادة الســمان في أحــدى الحوارات المنشــورة في كتابها «حكايات حب عابــرة» قائلة: )كوليت فارســة شــجاعة في زمن عدواني، وقفت في قلب العاصمة بلا وجل. وأنــا فخورة باســتمرار­يتها(. هنــا خرج صوت كوليت بلهفة ابنة الجيل الواحد تســأل عن غادة، ثم تضيف أنا محاربة مســتمرة )ســألوني ذات يوم أنت تكتبين طمعا بالشــهرة، قلت إطلاقا أنــا أكتب تحديا للموت أشــعر بهذه الأسطر أني أطيل حياتي قَليلا( .

لــدى كوليــت العديد من الكتــب التي تنتظــر دورها في الطباعة والتوزيع، وعلى رأســها الكتاب المنتظر منذ سنوات رسائل الشاعر الســوري نزار قباني ورســائلها إليه، التي حصلت عليهــا عن طريق ابنته الراحلــة «هدباء» وكانت قد خلدت قصة حبهما فــي روايتها «أيام معه» التي أثارت موجة من الجدل في نهاية خمســينيات القرن الماضــي، ومثّلها في الاذاعة كل من ســعاد حســني وأحمد مظهر، وتقول في أحد لقاءاتهــا التلفزيوني­ة عــن علاقتها بنزار: «كنــا على حافة الزواج ولكن لم يحدث ذلك لعدة أسباب منها أنه كان يكبرني كثيرا، وكنت أنا شــاعرة صغيرة صاعــدة للحياة، وهمي أن أصبح شــاعرة كبيرة، وكنت أعتقد أنني أنا المرأة في الحياة ونزار كان يتباهى أبْنه «شــاعر النســاء» ولم يعجبني ذلك فقررت الســفر حتى يشــعر بأنني أنا المرأة عندمــا تركته، وسافرت أحبني في تلك الفترة أكثر، لكن كان يجب أن أعود، واكتشــفت في ســفري أن الحياة جميلة وواسعة وفيها غير نزار.. انتهت قصــة حبنا لكننا بقينا أصدقاء وهو شــخص عزيز عليّ.أنهت السيدة كوليت المكالمة، وإذ بي أعود من رحلة التحليق في عوالم الحرف متشــبعا بكل تلــك الكلمات التي غذّتني روحيا وفكريا مســتدعيا كل الصور والحكايا المخبأة في الصندوق السري المســمى الذاكرة، بينما عبق الياسمين يملأ المكان ويحتل الكيان.

 ??  ?? كوريت خوري
كوريت خوري
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom