Al-Quds Al-Arabi

توماس هوبز ومفهوم الحق الطبيعي

- ٭ كاتب أردني فلسطيني

من أسباب الصدأ التي تعوق التطور الحضاري، انعــدام ما يمكــن أن ننعتــه بالتربيــة الحقوقية في معظم الــدول التي خرجــت من عباءة الاســتعما­ر، فتاريخيــا ســعت النخــب إلــى توفير منــاخ منعدم مــن الوعــي بقداســة القانــون، بوصفه أحــد أهم عوامــل الارتقــاء الحضاري، وهــي وصفة لا يمكن أن ننكــر وجودها في الدول المتقدمــة، التي أدركت أن القانــون يعــدّ محور الاســتقرا­ر لأي كيان بغض النظر عن تمظهره، فعند رحيل الاســتعما­ر نتج فراغ معرفي، أســهم في إنتاج نموذج قانوني )صوري( يســتجيب لتمكين النموذج الســلطوي، الذي خلّف الاســتعما­ر، حيث تناست هذه النخب تمكين الوعي الحقوقي، أو القانون بوصفه ممارسة وخطابا، من خــال تغييب الوعي على مســتوى القاع أو العامة بحقوقهــا، أو قدرتهــم علــى التعامل مــع تعقيدات المطالبة القانونية.

إن وجــود قــوة مطلقة في الســلطة، يســتجيب لتنظيــرات الفيلســوف الإنكليــز­ي تومــاس هوبز (1679 ـ 1855( بغيــة إيجاد مجتمع مســتقر وآمن، يدفــع نحــو تحقيق بنــاء مجتمع صناعــي مزدهر؛ ومن هنــا فقد أدرك قيمــة الســلطة للمحافظة على السلم، مع بيان أهمية عدم تحول المجتمع إلى مكوّن مختطف مــن قبل زمــرة المنحلــن، الذين يســعون للســرقة والانتقام حسب تعبيره، غير أن هوبز كان علــى وعي عميق بجدلية هذا الوجــود، وألا يقتصر على تحوّل الســلطة إلى الممارســة من جهة واحدة، حيــث تمتلــك نخــب الســلطة القــدرة على تفســير القانــون، والعمل بــه تبعا لمصالحهــا الخاصة، أو توجهاتها لصون كيانها، فتمكين هذا الوعي ينبغي أن يتأســس على تمكين الفــرد، والمجتمع المدني في صوغ هــذا التوليفة مــن الخطاب والممارســ­ة، وألا تكون الصورة مجرد اســتهلاك ظاهري. ولعل هذا يتأســس على إطلاق طاقات الفعل، عبر اللجوء إلى المزيد من أدوار الشــفافية والمحاســب­ة، انطلاقا من تفعيل هذا المكون في الدوائر التربوية، وأن تتحول المؤسســات المجتمعية إلى نمــاذج واقعية من حيث الاحتــكام للقانون، الــذي يتعطّل فــي بعض بلدان العالم النامي عند مواجهته مع الســلطة التي ينبغي للكل أن يخشاها، فأي تحولات تطال هذه القداسة يمكــن أن تــؤدي إلــى إحــداث اختــال للمنظومــة الســلمية، وانهيارها، غير أن هذه المنظومة لا تحيل إلــى المجتمع والدولــة، بمقدار ما تحيــل إلى نموذج السلطة الضيقة، الحريصة كل الحرص على تمكين المصالــح الضيقة بحدوده... فنحن في حالة صراع مستمر.

إن مفهــوم الحــق الطبيعي الــذي أنتجه توماس هوبــز يتعلق بأن كل فرد يســعى لامتــاك غاياته، ســواء الماديــة أو المعنويــة؛ ما يســتوجب نوعا من الفوضــى، لعل هذا المنطلق يبــدو مصدر نقد لأفكار هوبــز، غيــر أن الإدراك لمقتضيــات تمكــن نموذج قانونــي للفعــل يعنــي أن يكــون الأثــر علــى الكل، بحيــث تتحقق القــوة المتعالية لا من الســلطة، إنما فــي مجــال القانون، بوصفــه مصدرا للاســتقرا­ر، وقيــم الاحتكام، ومــع ذلك فــإن آليــة تحقيق ذلك تشوبها إشــكاليات بنيوية كون المجتمعات النامية لم تمتلك بعــد القدر الكافي من الوعي، لتكون فاعلة فــي نضالها، وهذا ربمــا يتأتى من غيــاب النموذج التربوي القيمي الفاعل، الذي يتوارى عن أي مساع لتمكينــه لــدى الأجيال علــى المســتويي­ن التراكمي والنوعــي. وكما يذكــر هوبز فإن معظم الشــعوب المتحضرة، مرّت بهــذا الطور من الحالــة الطبيعية، حيــث يحترم الأقويــاء بعضهم بعضــا؛ لأنهم على المســتوى عينه من الســيادة، فيذهب إلى أن يسوق لنا مثال أمريكا، التي كانت تعيش في طور البدائية في ذلك الزمن، أو بعيد اكتشافها.

إن ما يعنيا في هــذا الجدل أن ننطلق من مفهوم الســيادة بوصفهــا حالة شــمولية، تشــمل الكثير بمن فــي ذلك مــن يقبع في الســلطة بالتــوازي مع المحكــوم، حيث إن كل فرد يتخذ موقعه الســيادي، من أدوات تميل إلى التوازن، انطلاقا من مبدأ تمكين الســلطات، فضــا عن مبــادئ الديمقراطي­ــة، ومع ذلك، فإن هذا الوجــود - إن وجد في بعض الدول - فإنــه يبدو غير فاعل، أو أنه يعاني من اختلالات كونــه لا يســتجيب لمبــادئ واضحة، ولاســيما مع تغييب الوعــي المعرفي، فنتاج العمليات التثقيفية لا تحدث أثرا، كما أن اختلال خطط التنمية، وانشغال الإنسان في تحصيل قوت يومه، جعلته بمعزل عن هذا الوعي، ومن هنا، فإن عجلة الارتقاء الحضاري تراوح مكانها، في حــن لا يتحقق التقدم الحقيقي، إنما تبقــى منظومة الاســتغلا­ل والفســاد في طور الانتفاخ على حســاب التشــكيلا­ت الحضارية، مع شبه غياب للبحث والمساءلة القانونية.

إن مبــدأ هوبز في تمكين الســيادة للســلطة، أو المؤسســة عبر تنازل الأفراد عن جزء من سيادتهم، بالتجاور مــع قبول هذه الرعاية، ليــس أمرا منفلتا مــن أي ضوابــط، إنما هــو خاضع بالكليــة لمبادئ واضحــة تحول دون أن تتحول هــذه التنازلات إلى مصدر للاســتحوا­ذ والحكــم المطلــق، فحين تعجز المؤسســة عن توفيــر الحمايــة والرعايــة للأفراد، فإنها ســتكون فاقــدة لتلك الســلطة، وهــذا يطال الكثير من المنظومات التي تعجز عن توفير متطلبات الحياة لشــعوبها، وربما تتحول هذه الشعوب إلى وســيلة للإبقاء على وجود نخبــة تتمتع بالرفاهية والرخاء.

إن مبــادئ العدالــة تعنــي أن نعــي أن تطور أي منظومــة يتأتــى حــن تنتج أفعــال مســاءلة تطال المســتويا­ت كافة، من حيث قيم توزيع المسؤوليات والخبرات على المســتحقي­ن الحقيقيــن لها، وليس نتاج عملية محاصصة بغض النظر عن مظاهرها أو غايتهــا، فلا جرم إذن أن يؤكد «هوبز» أحد منظري الســلطة والنظام على حق الرعيــة بالعصيان، في حالة فشــلت مؤسســة الســلطة عــن أداء دورها؛ ولهــذا فإننا نجــد الكثير مــن الــدول المتقدمة التي تبدو فيها نماذج من هذا التمظهر في حالة شــفافية واضحــة، حيــث تضطــر شــعوبها للإعــان عــن تذمرهــا وعصيانهــا عند حصــول أي اختلال كون )تلك الشــعوب( تعي قانونيا أن هذا المسلك يكفله القانون.

وختامــا فــإن هــذا لن يتأتــى بلا وعــي معرفي عميق يمكن تحصيله من خلال تدخل تربوي بنيوي - قــد توافق الجميع علــى أهميته- ولا ســيما في الديمقراطي­ات العريقة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom