Al-Quds Al-Arabi

في ذكرى التأسيس: هل الأمم المتحدة صرح عدل كاذب؟

- د. مثنى عبدالله* *كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

بمقاعــد فارغــة وزعامــات غائبة وخطابات مســجلة، وحروب ساخنة وباردة، وملفــات شــائكة، أجبر فيــروس كورونا الأمم المتحــدة، التي تحتفــل بالذكرى الخامســة والســبعين لتأسيسها، لتكون منظمة افتراضية، لأول مرة في تاريخها، وتعقد اجتماعاتها السنوية عبر تقنية الفيديو.

وقد دفع هذا الوضع الجديد البعض للقول بأنها منظمة افتراضية منذ عقود، وليس الآن، بســبب الإحباطات التي مرّ بها العديد من الشعوب، نتيجة الإخفاقات التي حصلت في الكثير من الســاحات، وعجز المنظمة الدولية عن إيجاد حلول للكثير مــن القضايا، لكن النظــرة الموضوعية التي يفترض أن تكون معيارا فــي إطلاق الأحكام تتطلب النظر إلى أدوار الأمم المتحدة، ليس من زواية واحدة فقط، بل من زوايا أخرى، وعلى مسارات متعددة.

صحيح أن المنظمة الدولية تعمل في مســار حفظ السلم والأمــن الدوليــن، وهذا يُعــد الأهم، لأنــه يلامس حياة الشعوب والأمم، لكن عملها ليس مقتصرا على هذا الجانب، فهي تعمــل في مجال حقوق الإنســان، والتنمية والصحة والزراعة، والتربيــة والثقافة والفنون، والطفولة وغيرها من المجالات الأخــرى. وكما أنهــا أخفقت فــي العديد من المجالات، لكنها في الوقت نفســه حققت نتائج إيجابية في مجالات أخــرى، لكن التهجم عليها يجانــب حقيقة الواقع الذاتي لها، وهي أنها ابنة الواقع الدولي، بكل ما يمثله هذا الواقع من إخفاقات ومصالــح واتفاقات وصفقات. وبذلك يصبح التمني عليها بــأن تكون مثالية في كل الأعمال التي تقوم بهــا، إنما هو مجرد خيــال. إن أبرز مــا يعرقل عمل المنظمة الدولية اليوم هــو أولا، تراجع التعددية في العالم لصالــح الهيمنة من قبل طرف واحــد. ثانيا، إطلالة حرب باردة بين عضوين رئيســيين من أعضائهــا هما، الولايات المتحــدة الأمريكية والصين. ثالثا، عــدم انتظام العلاقات الدوليــة بين بقية القوى الكبرى، التي تتحمل المســؤولي­ة الأكبر في تحقيق الأمن والسلم العالميين. وقد انعكست هذا الســلبيات انعكاسا مباشــرا على قدرة الأمم المتحدة على التوفيق بين الأعضاء، لاتخاذ القرارات التي تعالج المشاكل الدولية، ما أدى إلى اســتمرار العنف والحروب والتدمير الممنهج والقتل في ســاحات كثيرة. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما جرى ويجري في ســوريا واليمــن وليبيا، وقبلها فلســطين والعراق، لذلك يأتي ما قاله الرئيس الفرنســي مطابقا تماما للواقع من )إن خطوطــا حمرا أعتقدنا أنه لم يكن ممكنا خرقها قد رُفعت: حرب الضم، استخدام الاسلحة الكيميائية، الاعتقال الجماعــي مع الإفلات من العقاب( ثم يضيف )أن حقوقا أعتقدنا أنها مُكتســبة انتهكت، ونظامنا الدولي الذي بات أســير نزاعاتنا لم يعد يقوى على فرض عقوبات على هذه الخروقات(.

إن ميثاق الأمم المتحدة ما زال يمثل الحالة السائدة بعد الحرب العالمية الثانية، وإن توقيعه آنذاك كان يُحابي تلك الظروف، ويداري مصالح القوى التي خرجت منتصرة في الحــرب، لذلك أتت الامتيازات التي فيــه عبارة عن جوائز للحلفاء المنتصرين. من هنا نرى أبرز علة بنيوية شاخصة في هذا الميثــاق وهي، حــق النقض )الفيتــو( الذي جاء

بإلحاح من الرئيس الأمريكي الأســبق روزفلت، الذي أصر على تضمين الميثاق هذه الوسيلة، كي تستخدمه الولايات المتحدة الأمريكيــ­ة للتخلص من قرارات الزعيم الأســبق للاتحاد الســوفييت­ي ســتالين، التي لا يرغبون فيها. هذا الوضع جعل الكيان الذاتي للمنظمة بشــكل عام يُعاني من حالة هشاشة، وعدم قدرة على ممارسة التنفيذ، كما أبقته رهينا لتلك القوى نفســها، وســائرا وفق إيقاع زمن ولى، ومتمسكا بواقع سياسي واقتصادي وعسكري واجتماعي ليس ابن الحاضر، ما شكل تحديا كبيرا ومستمرا للمنظمة الدولية ولمصداقيته­ا ولقدرتها على الفعل، حيث يفترض أن تكون ابنة الحاضر لا الماضي.

ومن هنــا تأتي الدعــوات المتكررة من قبــل العديد من زعماء أوروبا وافريقيا وآســيا وأمريــكا اللاتينية، للقيام بإصلاحات علــى تركيبة مجلس الأمــن، بما يجعله ممثلا حقيقيا لشــعوب وأمم وقــارات أخرى، لكــن واقع الحال يقول عكس ذلــك، حيث يبدو التقدم بهذه الخطوة شــيئا مســتحيلا. فمن ذا الذي يفرط بهذه المســاحة الواســعة من حرية التصرف، التي يمنحها لــه حق النقض لتحقيق مصالحه الخاصة، على حســاب الآخريــن؟ ومن ذا الذي لديه الاســتعدا­د للتفريط باحتكار القرار الدولي والسماح للآخرين بــالأكل من جرف امتيازاتــ­ه؟ فعلى الرغم من أن المجلس يضم خمسة عشر عضوا دائمين وغير دائمين، ومن حق كل دولة اقتراح مشاريع قرارات، لكن القرارات الفعلية تأتــي فقط من الدول دائمة العضويــة فيه، التي تملك حق النقض.

لقد تحولــت الجمعيــة العامة لــأمم المتحــدة خلال الســنوات الماضية إلى منبر لعروض يقدمهــا قادة الدول يخاطبون فيها الداخل في دولهــم، وليس المجتمع الدولي لإثبات ما قاموا به من منجزات، ما يؤكد أن المجتمع الدولي لم يعد مســرحا مهما لهم لتقديم إنجــازات فيه. ومازالت طرية فــي الذاكرة وقفة الرئيس الأمريكــي دونالد ترامب علــى منصة الامم المتحــدة قبل ثلاث ســنوات، حيث قدم عرضا مســتفيضا عن الوظائف التي جلبها لشعبه، وكأنه في حملة انتخابيــة، وعن كمية الأمــوال التي وضعها في الخزينــة الأمريكية، بعد أن جعل الحمايــة مقابل المال، في حين لم يمر على الأزمات والظروف الدولية المعقدة، إلا لماما فســخر منه الكثير من الزعماء والدبلوماس­يين الحاضرين من كل القارات.

إن ميثاق المنظمــة الدولية يؤكد على أنها وجدت لخدمة الأمــن الجماعي لشــعوب العالــم، لكن يبدو هــذا مجرد خيال في الوقت الراهن، فوبــاء كورونا كان الدليل الأكبر والأحدث لتفنيد ذلك، حيث نرى الانقســام­ات على أشدها بين الــدول الكبرى في هــذا المجال، ما أعاق بشــكل كبير الاتفاق علــى وضع اســتراتيج­ية عمل مشــتركة لحماية المجتمع الدولــي من هذه الكارثة الصحيــة. وبدلا من ذلك تحول الكبار لسياســة كيــل الاتهامــا­ت بعضهم لبعضهم الآخــر، فالولايــا­ت المتحدة تطلــق تســمية الصين على الفيروس، فيما تقــول الأخيرة إن الولايــات المتحدة هي التي جلبــت الفيروس إليها. لكن ومع كل الســلبيات التي تحيط بعمــل المنظمــة الدولية، ذاتيــة وموضوعية يبقى الحكم الســلبي على خمسة وســبعين عاما من السير على حبل مشــدود بين قوى متصارعه غير منصف. فالانصاف يتطلب القول بأن المنظمة الدولية منبر دبلوماســي عالمي رفيع، لإثبات قلق المجتمع الدولي بشــأن مشــاكل وأزمات قائمة، ومســرح مهم يلتقي فيه قادة وزعماء العالم من كل مكان، حيث تكــون الاتصالات الشــخصية عاملا مهما في إيجاد عنصــر الثقة المطلوب، الذي يقود إلى دبلوماســي­ة اختراق الأزمات والسياسات الناجحة. كما أنها توفر فرصا كثيرة للناشــطين والشــخصيا­ت العامة، لعقد اجتماعات يتداولون فيها الشــأن الدولي خلف الأبواب المغلقة، كذلك في أروقة مجلس الأمن تتوفر وتوفرت فرص سانحة التقى فيها الأضداد والخصوم لنزع فتيل أزمة ثنائية أو إقليمية أو دولية، حصل هذا في ســاحات كثيرة مثل كمبوديا وتيمور الشرقية وناميبيا ونيكاراغوا وفي أماكن أخرى من العالم، لكنها في الوقت نفسه عجزت عن إيجاد حلول في فلسطين والعراق وليبيا واليمن وسوريا.

تحولت الجمعية العامة للأمم المتحدة، مؤخرا لمنبر عروض يقدمها قادة الدول يخاطبون فيها الداخل في دولهم، وليس المجتمع الدولي

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom