Al-Quds Al-Arabi

«مشاهد فلسطينية» في أفلام لا علاقة لها بفلسطين!

-

أي حديث عن «الســينما الفلسطينية» يحيلنا تلقائيا )وليست الإحالة دقيقة( إلى صناع الأفلام الفلســطين­يين، المنتمــن بهوية مطبوعة إلى هذا البلد. وبانفتاح أكبر على ما يمكن أن تعنيه «الســينما الفلسطينية» أو أي انتماء لهذه الصفة )الفلســطين­ية( في مجال الســينما مثلا، وهو مبحثنا هنا، يحيلنا الحديث عن هذه الســينما إلى أفلام ينجزها غير فلسطينيين تكون فلسطين، كموضوع، حاضرة أساسية فيها.

ليست هذه الأخيرة كثيرة على كل حال، وتتركز في الوثائقيات وليس الروائيات، لكن هنالك حالة ثالثة لما يمكن تسميته «السينما الفلسطينية» لا تتخطى المشاهد المتفرقة، المعزولة عن سياق الفيلم غير السياسي بالمعنى المباشــر، ولا نحكي هنا عن جان لوك غودار، الذي أشــار إلى فلسطين في غير فيلم بشكل سياسي ومباشر )وفني عالٍ( فهو أقرب إلى الحالة الثانية أعلاه. هذه الحالة، الثالثة، لا أدرجها في تصنيف «الســينما الفلسطينية» طبعا، لكني ســأبتكر هنا ما يمكن أن أســميه «المشــاهد الفلسطينية» في ســينما لا علاقة لها بفلسطين، وهي مشــاهد تكون فلسطين حاضرة فيها، وتكون ضمن ســياق )حكاية وأجواء وموضوعات رئيســية وثانوية( لا يكون بالمرة فلسطينيا.

هذه الحالــة الثالثة لا تقل أهمية عن الثانية، حيث صانع الفيلم يتقصد إخراج فيلمٍ بموضوع فلســطيني، يخطر لي الآن فيلم ‪Hanna K 1983‬ للفرنســي اليوناني كوستا غافراس. لا تقل أهمية لأنها لا تتقصد الموضوع الفلسطيني كموضوع سياسي، بل تأتي به عرضا، تلقائيا، مرورا في سياق آخر تماما، هو بالتالي لا يقدم فكرته عن فلســطين لجمهور ينتظر ذلك منه )ولا يوزع عليه شــعارات( بل يقدمها ضمن حوار عادي، كحديث عرضي، بين عشــاق أو غرباء لهــم أحاديثهم الأخرى الأقرب إلــى موضوع الفيلم الرئيسي )موضوع قد لا يعجب «أصدقاء» فلسطين كما في المثالين أدناه(.

أعطي هنا مثالين على الحالة الثالثة، التي لا بد أن تتم دراســتها بشكل أشــمل وأعمق، فهذه «المشاهد الفلســطين­ية» تمر بشــكل يعلق في ذهن مُشاهد الفيلم، هي من تلك «الرسائل» التي تتخلل حوارا أو مشهدا ما، في الفيلم، وتبقى، لِلاعلاقتها بالسياق، عالقة في ذهن مُشاهدها.

المثال الأول هو فيلم ‪Nymphomani­ac 2013‬ للدنماركي لارس فون تراير. الفيلم قوي وممتع وجريء وإشكالي، هذا هو لارس فون تراير على كل حال. هو فيلم إيروتيك، تشــويقي، فلســفي، فني، يحكي حياة امرأة مهووســة بالجنس. في حوار بينها وبين الذي تحكي له قصتها، على طول الفيلم بجزأيه، تقول هي عن اســمه: يا له من اســم سخيف. يجيب: إنه يهودي. تقول: لكنك قلت إنك لست متدينا. يقول: لا، لكن جدي الأكبر كان، منحني والداي هذا الاسم كنوع من العلاقة العاطفية باليهودية، لكننا كنا دائما ضد الصهيونية، وليس هذا الأمر ذاته بأن تكون لاساميا، كما تدعي بعض القوى السياسية.

الفيلم الذي شــارك جزؤه الأول في مهرجان برلين السينمائي، وجزؤه الثاني في مهرجان فينيســيا الســينمائ­ي، والذي نال ترحيبا نقديا عاليا )وجوائز وترشــيحات عدة( أتى في هذا الحــوار بفكرة هي من بين الأكثر حساسية في ما يتعلق بفلســطين، في أوروبا. أتى بها باختصار، بتكثيف لفظي واضح وبين، وبشــكل مقصود وخارج عن ســياق الفيلم، في زمن

يتقصــد الكثيرون الخلط بــن المفردتين: العــداء للصهيونيــ­ة والعداء للســامية. وهذا ما يعطي هذا الحوار القصير قيمته «فلسطينيا» فالحديث أتــى تلقائيا، بدون مبــررات مرهِقة، وبدون غايــات «نضالية» في أفلام سياسية مباشر تكون «رسائلها» في حالات كثيرة، تلقينية ومنفرة.

المثال الآخر هو فيلم أقل أهمية بشكل كبير، هو أقرب ليكون فيلما ترفيهيا غنائيا، أقل فنية وإشكالية، وأقل «مقصودية» في طرح فكرة فلسطين، لكن طبيعة الفيلم هذه تعطي للإشــارة إلى فلسطين معنى آخر، في سياق آخر أقل جدية، ولا يعيبه ذلك فيمكن لفلســطين أن تأتي في ســياقات سطحية وضمــن أفــام لا تكون بالضــرورة عاليــة الفنيــة، وإن كان فيلمنا هذا شــارك في مهرجان كان الســينمائ­ي. أحكي عن فيلم ‪Les Chansons‬ d'amour (أغاني الحب 2007( للفرنسي كريستوف أونوريه.

في مشــهد، في بدايات الفيلم، ضمــن علاقة حب ثلاثيــة، بين فتاتين وشــاب يهــودي، ثلاثتهم على ســرير واحــد، وضمن جــدال بينهم عن الحب والرومانسـ­ـية والجنس، تقول إحداهن للشــاب الذي تلومه على رومانســيت­ه ويرد بأنه النقيض من الرومانســ­ية: إنك دائما النقيض مما تدعيه لنفســك، مدير يهودي! يرد بأنه لم ينفِ أبــدا حقيقة كونه يهوديا. يعقــب مازحــا: لا أعرف حتــى تحديد تل أبيــب على خريطة فلســطين. يضحكان وينتهي المشهد.

كأنه يقول إنــه كيهودي، لا بد أن يعرف تحديد تــل أبيب على خريطة فلســطين، لكنه لا يعرف، ويقولها مازحا وســاخرا من ضرورة أن يعرف اليهودي موقع تل أبيب. وهذا اليهودي العلماني غير المعني بموقع تل أبيب،

يشــير بتلقائية وبدون أن يفكر في «الصوابية السياســية الصهيونية» إلى الخريطة باســم فلسطين، ونحن لا نحكي عن الضفة وغزة، كما يشير إليها بعض الفلســطين­يين «كوطن» لهم. هو يشــير إلى تل أبيب ذاتها بأنها على خريطة فلســطين )من البحر إلى النهر(. وهذه كذلك، إضافة إلى الإشارة في الفيلم السابق، من أكثر النقاط حساســية في العالم في ما يخص الموضوع الفلســطين­ي: هل تل أبيب في فلسطين أم إسرائيل؟

أهمية الإشارات هذه، «المشاهد الفلسطينية» في أفلام لا تمت لفلسطين بصلة، إنها جاءت تلقائية، بدون واعز سياســي، وبدون رسائل مباشرة، وبدون حاجــة لتبريرها وبدون «معلميــة» على الُمشــاهد، هي أحاديث عادية تمر ســريعا وتعلق في الذهن. هذه لا تقــل أهمية عن أفلام أنجزت بتقصد لتحكي شيئا «عادلا» عن فلســطين. التلقائية فيها، عادية الحديث عن فلســطين، على الســرير مع فتاتين في علاقة حب ثلاثي، أو في حكاية إحداهن عن هوســها بالجنس وعلاقاتها الجنسية الغريبة والمتعددة، هذا ما يعطي لفكرة فلســطين مساحة كانت وماتزال دائما منفية ومقموعة، من قبل «حراس الأخلاق» و«الوطنيين» و«المتضامنين» الذي لا يعرفون سوى تلك النســخة الصدئة من اسم فلســطين، ولا يعرفون سوى الحديث عنها كشعار سياسي مباشر ومبتذل. ٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom