Al-Quds Al-Arabi

التدين والانتماء والفانتازي­ا في رواية «الهدهد إن حكى»

- ٭ كاتبة مصرية

مرَّ عقدان من الزمن بين صدور الروايتين««‪The Transla-‬ tor» (المترجمة( )1999( و «‪Bird Summons‬ » التي صدرت مؤخرا تحت عنوان «الهدهد إن حكى» عن دار الساقي في لبنان، للروائية السودانية ليلى أبي العلا )1964.)

تغيرت الظروف الاجتماعية، والسياسية والاقتصادي­ة في المنطقــة العربية، وكذلك النظــرة للغرب وثقافته وقيمــه، ما ترك تحــولات ملحوظــة على هوية الشباب المســلم واختياراته­م وســلوكهم، التي ترصدهــا أبــو العلا بطريقــة أدبيــة بارعة في روايتها الأخيرة.

تُعَدُّ الروائيــة ليلي أبو العلا من أهم الأديبات الافريقيات اللاتي نالت أعمالُهُنَّ الأدبيةُ شــهرة واسعة في القارات الستِّ، بل تُرجم العديد منها إلى خمسَ عشــرةَ لغة، وحصدت جوائزَ عربية وعالمية عدة. وتتناول أعمالها موضوعاتٍ ترصد سيكولوجية، وانفعالات المرأة الافريقية المهاجرة في الغرب، والتحديات التي تواجهها، خصوصا في ما يتعلق بممارســة التدين، وما تعنيه أماكن العبــادة كملجأ نفســيٍّ وروحيٍّ لعــدد كبير من المسلمين والمســلما­ت في الغرب، الذي تندثر فيه أهميةُ الهُويــةِ الدينية، وأماكنِ العبادةِ من جهة، ويشــهد موجات من العنصرية تجاه المســلمين والعرب من جهة أخرى.

ونُشر لأبو العلا خمسُ روايات جميعها كتبت باللغــة الإنكليزية، وهــي: «المترجمة» 1999() و«المئذنــة» (2005( و«حــارة المغنــي» 2010() و«كرم الأعــداء» (2015(. وكذلك نُشــر لها عدد من المســرحيا­ت التــي أذاعتها «بي بي ســي» البريطانية على هيئة حلقات درامية.

تدور أحداث رواية «الهدهــد إن حكى» التي تقــع أحداثها فــي 320 صفحة، عــن رحلة برية لثلاث شــخصيات نســائية لزيارة قبر السيدة إيفيلــن كوبولد ‪1963 1867/‬ وهي: أول ســيدة بريطانية مســلمة تقوم برحلة حج إلى مكة. وفي هذه الرحلة تبحث البطلاتُ الثلاثُ: )ســلمى، ومونــي، وإيمان( عن إجابات لمعاناتهن الشــخصية كشــخصيات متدينات في الغرب. فسلمى أتت من القاهرة مع زوجها الأسكتلندي الذي أسلم قبل زواجهما، لتجد نفســها ممزقة بــن محاولة الانتماء لمجتمــع وُلِد فيــه أبناؤها الأربعــة، وحنينهــا لجذورها وهويتها المصرية، هذه الحالة التي يؤججها ظهور خطيبها السابق وزميل دراســتها في مصر )د. أمير( فتجد نفسها أمام الاختيار بين حياة أســرية مســتقرة، وعودتها لبلاد تعتقد أنها تنتمي إليها، حيث تحقق حلمها بممارســة مهنة الطب بعد أن اضطرت للعمل كمعالجة فيزيائية؛ لفشلها في اجتياز امتحان مزاولة المهنة الذي أهلتها لها دراســتها في مصر. أما موني فهي زوجة وأمٌّ ســودانية تجد نفسها تتحول

من موظفــة بنك ناجحة ومفعمة

بالحيوية، والإقبــال علــى الحيــاة إلى زوجــة وأمٍّ تصارع فــي الاختيار بين طاعــة زوجها، واستقرارها الأسري معه، حيث وجد عملا في السعودية، والرعاية النفسية والطبية التي تتطلبها حالة ابنها المعاق في أسكتلندا.

أما إيمان فهي فتاة سورية فاتنة الجمال في نهاية العقد الثاني من عمرها، تركت خلفها ثلاث زيجات فاشلة، وتجد نفســها أخيرا بلا مأوى، ولا تعليم يؤهلها لحياة كريمة في

بلد غريب.

خلال تلك الرحلة إلى المقبرة، التي لا تســتغرق ســوى عدة أيــام تحاول أبــو العلا الغــوص عميقا في نفســية هؤلاء المهاجرات ومعاناتهن، التي تتشــابك فيها معاناتُهُنَّ الشــخصية مع أسئلة تشغل بال شريحة من الشاب المسلم في الغرب اليوم، حول قيم ومعان أهمها: الإيمان، الحرية، المسؤولية، الانتماء والسعادة.

علاقات أسرية بين الإسلام والمسلمين

تميز الرواية بطريقة بارعة بين الثقافة والدين، متحدية النظرية الاستشــرا­قية التي ترى أن الدين الإســامي هو الســبب الأساســي خلف الهيمنة الذكورية تجــاه المرأة المسلمة، من خلال شخصية دافيد الزوج الأوروبي المسلم، المحب والوفــي والداعم لآراء واختيارات زوجته ســلمى وأبنائه، في مقابل المسلم العربي المتملك المفرط في غيرته، والخاضع لقرارات العائلة متمثلا في شخصية زوج إيمان، الذي تزوجها ســرّا، بعد أن نصحه شيخ المسجد بالزواج كحلٍّ لصدمتــه الثقافية في الغرب، حيث يدرس، وهنا كان الزواج «الإسلامي» الســريع من فتاة تركت خلفها الحربَ، ووجدت أمامها مســتقبلا غامضا، وحياة شاقَّة لم تتسلح لها. فــكان طلاقه لها بأمــر من أهله، كمــا وصفته الكاتبة «طلاق على الشاطئ» بدون أن تحصل هي على أيَّ حقوق، فزواجهما لم يكن موثَّقا لدى الســلطات الرسمية، وهي من أهم المشكلات، التي تواجه المسلمات والمسلمين في أوروبا اليوم، وخصوصا المهمشات منهن.

أما زوج «موني» فهو لا يســتطع تَفَهُّــمَ حاجة ابنه، ولا يســتطيع دعم زوجته نفســيا في هذه المحنة، وفي المقابل يطالبها بأن تطيعه وترافقه إلى الســعودية، حيث يعتقد أنه سيتخلص من العنصرية في الغرب.

التدين في الغرب

تختلف رواية «الهدهد إن حكى» عما سبقها من روايات للكاتبــة، حيث اختــارت البطــاتُ العودةَ إلــى بلادِهِنَّ في الشــرق، أو «ديار الإيمان» كما يصفهــا البعض، مثل: شــخصية ســمر في روايــة «المترجمة» التي عــادت إلى الســودان، و«المئذنــة» التي انتهت بعــودة «نجوى» من إنكلترا إلى مكة، أما في «الهدهــد إن حكي» فرفضت موني أن تذهب مــع زوجها مرتضــي للســعودية، وبعدها إلى الســودان؛ إذ رأت أن أبنها لن ينــال الرعاية والتعاطف

والتقبل، كما هو في أسكتلندا. بالنســبة لموني انقسم العالم والثقافــا­ت في وقتنــا الحالي إلى طرفين متقابلين: ثقافات وسلوكيات جيدة في أوروبا، أو عكسها في الشرق.

أما إيمــان التي ظلــت وحيدة بلا أهــل ولا مأوى، ومع إصرار أهلها ألا تعود لســوريا حيث الحــرب والدمار، فقد أصرت علــى أن تبدأ حياة جديدة، بــدون الاعتماد المطلق علــى صديقتها وناصحتها المســلمة ســلمى، وبدون نبذ جمالها الذي يؤهلها فقط لتكــون «ملكة» في بيت أحدهم، ستكافح لتبحث عن عمل بعد تحسين لغتها. أما سلمى فرأَتْ أن شخصية الســيدة إيفيلين كوبولد، تُعَدُّ بمثابة مستقبل لها في أســكتلندا، فهي لن تعود لتُدْفَــنَ في مصر كما كانت ترغب، بل إنها ســتركِّز على حياتها الأُسرية والعملية في أسكتلندا؛ لتعيش وتدفن إلى جانب أبنائها.

من التدين الظاهري والجماعاتي إلى التركيز على الفرد والذات

تنــدرج «الهدهد إن حكي» تحت مصطلــح «أدب ما بعد الاســتعما­ر» إذ تقدِّمُ أبو العلا فــي روايتها صورة مختلفة عن الصورة النمطية الســائدة للمرأة المســلمة في الأدب والســينما الغربيــة. فبطلاتهــا اللاتي يجــدْنَ في الدين ملجــأ وداعمــا روحيّا، وليس قيــدا يَطُقْــنَ للتحرر منه، لســن جاهلات خاضعات، بــل إن منهن نســوة متعلمات و«متحررات» وســاعياتٍ للمشــاركة في المجال العام، كل في تخصصها. كما أنها قدمت صورة مختلفة لتدين صوفيٍّ روحانــيٍّ يركز على الذات وداخل الفرد، وليس على المظهر الخارجي، وأزيــاء معينة؛ كارتداء الحجــاب، أو العباءة الســوداء، وممارسات تتطلب من المســلم الانتماء واتباع جماعةٍ ومكانٍ واحد للعبادة، ليكون مســلما جيدا. جاءت تلك الصــورة لتلك البطــات متوافقة مع رغبة شــريحة واسعة من الشباب المســلم في الغرب، الذي يسعى لبناء هويات مختلفة ومتعددة تمزج بين الغرب وقيمه الحداثية وهويته الإسلامية.

اســتعرضت الرواية هذه الأفكار بطريقــة لم تخل من التشويق والإثارة، إذ مزج السرد بين الواقعية والفانتازي­ا، في جوٍّ غرائبــيٍّ تداخلت فيه الأماكــن والأزمنة، وظهرت فيه الطيــور والحيوانات المتكلمة والأشــباح، والأرواح، وأشخاص من أزمنة غابرة، وأماكنَ بعيدةٍ.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom