Al-Quds Al-Arabi

من أجل تاريخ للمصطلحات السردية

-

لا يــكاد يخلــو نقــاش عربي حــول الروايــة عامة، أو الســرد بصفــة خاصة، مــن طرح مســألة المصطلح الســردي، ورغــم كثرة مــا أثيرت هــذه المســألة، وما كتب حولها فإننا ما نزال، وســنظل نطرحها، ما دمنا لا ننطلق مــن رؤية مركزيــة لاســتعمال المصطلحات، ونتفــق على تصور خــاص في توظيفهــا بعيدا عن أي رغبة ذاتيــة في التميــز، أو اقتناع بأن مــا نقترحه هو الأفضــل. ولا يتأتى لنا ذلك إلا بالإنصات إلى الدلالات العميقــة للمصطلحــا­ت التــي نســتعمل فــي علاقتها بالمجال الذي نشتغل به.

اعتــرض أحــد الباحثــن العــرب علــى اســتعمالي لمصطلح «الراوي» في تحليل الســرد المعاصر، بدعوى أن لــه حمولــة قديمــة وتقليديــة. فــكان جوابــي: إن للمصطلــح أيــا كان المجــال العلمي الــذي يوظف فيه، تاريخا شأنه في ذلك شأن أي كلمة في اللغة الطبيعية. ويتحمــل مصطلــح الراوي مثــا المعنــى الجديد الذي نعطيه إياه في سياق استعمالاتن­ا المعاصرة. وسيكون هذا المعنــى مختلفا بالضــرورة عن المعانــي، التي ظل يحملهــا في تاريخ اســتعماله، تماما كمــا أن اختياره، وإعطــاءه معنى جديدا لــه غايات ومقاصــد، يجب ألا تخفى على المشتغلين في الحقل السردي.

إننــا لا نولــد المصطلحات فــي اللغــة العربية لأننا لا ننتــج النظريــات التــي تتطلــب توليدهــا، ولذلــك فمصطلحاتنـ­ـا تنجــم عن «الاجتهــاد» فــي ترجمة ما نجده في اللغة المترجم عنها. تتعدد طرق هذا الاجتهاد بنــاء على الطريقــة التي نفهــم بها تلــك النظريات، أو المصطلحــا­ت المتصلــة بهــا. اعتمــد الباحثــون العرب فــي ترجمــة، مــا أســميه «الــراوي» بالقــاص، حينا، وبالحاكي، حينا آخر، وبالسارد ثالثا. حين استعملت الســرديات هــذه المصطلــح كان الهــدف منــه التمييز بينــه وبين المؤلــف. لقد ظــل التحليل النقــدي للرواية الغربيــة، والعربية أيضا، قبل المرحلة البنيوية يتحدث عن الروائــي باعتباره هو المؤلف، وينســب إليه كل ما يرد في الرواية، على غــرار ما كان يمارس في التحليل الشــعري حين يقال: قال الشــاعر، فكانوا يقولون في تحليــل الرواية: قال نجيــب محفوظ. وحــن تتحدث شــخصية ما، يكتبون: قال نجيب محفوظ على لسان؟ إن الجديــد الذي تحقق مع البنيوية في تحليل الســرد انطلق من ســؤال: من يتكلم في النص الســردي؟ ومن هنــا جــاء اقتــراح مصطلــح «الــراوي» تمييــزا له عن الكاتب.

إن المصطلحــا­ت العربية التي وظفــت لهذا الصوت، الــذي يتحدث فــي الرواية، هي القــاص أو الحاكي أو السارد أو الراوي، وحين نتأمل مصادر أسماء الأفعال لهــذه الكلمــات نجدهــا: القــص، والحكي، والســرد، والروايــة. إن القص والحكي والرواية تتصل مجتمعة بأنواع ســردية: القصة، والحكاية )باعتبارهما نوعين قديمــن(. أمــا الرواية فـ)نــوع جديــد( ولا علاقة لها بالمصطلــح القديم. أما كلمة «الســرد» فــا تتصل بأي نوع ســردي. نلاحظ أن مصطلح «القصــة» له تاريخ. فالقصــة في صدر الإســام، تختلف عنهــا في فترات لاحقــة، حيــث صار مــن معانيهــا: المظلمة التــي تقدم للوالــي. كما أن القصة كنوع قديم لا علاقة لها بالقصة مع ظهــور الطباعــة. ويمكننا قول الشــيء نفســه عن الحكايــة، وعن القص والقاص. أما الحاكي والســارد فغير مستعملين. إن القاص هو الواعظ الذي كان يقف في المســاجد ليحكي أخبار الأولين بهدف الوعظ. لكن مصطلح الراوي حين استعمل قبل الإسلام كان يحمل معنى الشــخص الذي يــروي، أي ينقل أقوال غيره من الشعراء أو الأعراب، وامتد ليتصل بالإسلام في رواية الحديــث. أما الســارد، فكان يتصــل بصناعة الدروع، وبعد ذلك الأحذية. وكانت تطلق على الإسكافي. وفي القرآن الكريم: «أن اعمل ســابغات، وقدر في الســرد» إشــارة إلى صناعة الدروع. كما أن «الســرد: المسامير في الحلق، أو: ثقب الدروع، فيسد قثيرها». ثم تحولت الكلمة لتعني: ترتيب وتنظيم الأشياء المقدمة.

إذا دققنــا فــي تاريــخ هــذه الاســتعما­لات فــي الثقافة العربية، ســنجدها قد عرفت تطــورا ملحوظا، وانتقلت من مجــال إلى آخر، محافظة على حقل دلالي مشترك. وبدون وضع علاقات المفردات والمصطلحات بدلالالتهـ­ـا المتحولة، وانتقالاته­ــا، لا يمكن أن نفلح في وضــع المصطلحات وتوليدها. هكــذا نلاحظ الباحثين الغربيــن يعمــدون إلــى اليونانية أو اللاتينيــ­ة لتوليد المصطلحات، وتوظيفها في لغاتهم الجديدة، محملينها أبعــادا تحافــظ علــى الحقــل الدلالــي، الــذي كانــت تحمله في أصل تشــكلها. فمصطلح «الســيميائ­يات» و«الســيبرني­طيقا» ذات جذور يونانية، وتستعمل الآن لاختصاصات جديدة لا علاقة لها بالثقافات القديمة.

درج الكثيــر مــن الباحثــن العــرب حاليــا علــى العــودة إلــى المعاجم اللغويــة، ومعاجــم المصطلحات مثــل: «التعريفــا­ت» و«الكليــات» للبحــث فــي بعــض المصطلحات التي جاءت عن طريق النظريات الجديدة، ويحاولون تتبعها في مختلف هــذه المصادر، ويقفون عنــد هذا الحــد، بــدون مناقشــة، أو إجــراء يمكّن من تأصيل المصطلــح، ثم يذهبون إلــى الترجمة لتكرار ما هو ســائد، أو لاقتراح مصطلح جديــد، إن الرجوع إلى مصادر المصطلحات في استعمالاته­ا، وهي تتطور في التاريــخ في اللغــة العربية يبقى بــدون نتيجة إذا كان المــراد هو فقط تبرير مقابل لمصطلح أجنبي تم اختياره مســبقا. لقد اخترنا الــراوي لدلالته غيــر النوعية على صوت سردي، ومصطلح السارد للدلالة على من ينتج السرد: أي الكاتب.

 ??  ?? سعيد يقطين٭
سعيد يقطين٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom