Al-Quds Al-Arabi

«الرفكة» أو الرفقة في الأدب الحساني

- ٭ كاتب صحافي متخصص في التراث والثقافة الحسانية

يعدّ التراث الحســاني الشــعبي، أهم موروث شعبي لمجتمــع اســمه مجتمــع )البيظان( هــذا المــوروث الذي حــوى خبايا تتطلب مــن الباحثين والدارســن الغوص في أعماقه، لفك شــيفرة الكثير مما يكتنزه هذا الموروث الغني بالعبر والحكم، لأن الإهمال وقلة الدرس والنبش فيه سيجعله يندثر، لأجل بسطه بين يدي القارئ وإطلاع هذه الأجيال من المهتمين بما كان مخفيا من هذا التراث، الذي زاوج العربي بالأمازيغي والافريقي.

وعلــى ســبيل المثــال، مفــردة «الرفكة» الحســانية، )الكاف تنطق كالجيم المصرية( أو )الرفقة( هذا المفهوم يعد جزءا من حيــاة مجتمع )البيظــان( حيث عليه مدار الحيــاة الاقتصادية، لمجتمع أســس طرقــا وابتكر حيلا للعيــش، فالرفقة، أو القافلــة، أو العير، هي ذاك التجمع من الجمــال الذي يقصد به الســفر من مــكان إلى مكان معــن، وحمل مــا يحتاجه أهــل البلد من ميــرة تنوعت أشكالها، واختلفت أنواعها، أي )المؤنــة(. وحســب المهتمين بهذا المــوروث، فإن فعل الرفقة أصيل في التراث العربــي، عليها انبنت الحياة وبســببها قامــت حــروب، وبهــا ســادت أمم وبــادت أخرى.

فالرفقــة أو «الرفكــة» كانــت مــن ابتــكار الأغنياء فــي مجتمــع )البيظــان( حيــث كانــت القوافل تجهز للذهــاب إلــى أماكــن مقالع الملح لتشــتري ما تســتطيع حمله، ليتم تسويقه كتمبكتو في بلاد السودان، والمناطق الأخــرى مــن افريقيــا التــي تعــرف ممارســة التجــارة التي كانت تعتمد في الغالب علــى المقايضة. وللإشــارة فــإن الرفقــة أو )الرفكــة( تتألــف مــن مجموعــة كبيرة مــن الجمال، حســب ثراء صاحبها، فقد تصل إلى مئة جمل أو يزيد، وقد يشــترك فيها البعض، حســبما يملك من الجمال؛ يترأســها أحد الأفــراد ممن له خبــرة في تضاريس المنطقــة، وله حنكة فــي «الدبلوماسـ­ـية» أي أن يكون شــخصا رزينا له باع واســع يتحمل كل شــيء، وبالمفهوم الحالي «سياسي» بالإضافــة إلى هذا يكون شــكله ومظهــره يؤكدان على أنه قوي البنية الجسمانية، ويطلق على هذا الرجل اسم «آقديم» لأنه يتقدم القافلة ويحرسها ماديا ومعنويا.

الأحمال علــى الجمال تتكون مــن «ترافطن» تجعلان على ظهــر الجمل لتقيه مما قد يصيــب ظهره، ثم توضع الأحمــال على ذلك، وهما «الشــقوق» واحــد عن اليمين والآخــر عن اليســار في تعادل حتى لا يســقط أحدهما،

ويــزن الجميع ما قــد يصل إلى ثلاثمئــة كيلوغرام، وقد يضاف إلى ذلك ما يعرف بـ«علاي».

والغالــب في هــذا النوع أن يكون من أنــواع من المواد حســب كل منطقــة، التــي تكون تجــارة رابحــة في تلك الأماكــن يبيعون فيها ويشــترون، خاصة المــدن التي لا يوجد فيهــا ذلك النوع من البضاعــة، ولذلك أتت مفردة «عــاي» بمعني في علــو البضاعــة. أما في حمــل الملح فتتكــون الحمولة من اثنتي عشــرة عديلــة، أو ثمان، أو ســت، يحملها الجمــل، يضاف إلى ذلك بعــض الأواني وغيرها، أما المــاء فله جماله الخاصة بــه، يحملونه في «القرب» واســتحدثت أوعية جديدة وهي»التنوات» أي براميل صغيرة الحجم، ينضــاف إلى ذلك جمل «الزاد» المخصــص لحمل مــا يحتاجه أهل القافلــة من مأكولات وأوان من الشاي والسكر.

يتجــه أهل «الرفكــة» أو الرفقــة إلى المــدن التجارية،

باعتبارها أســواقا لبيــع ما حمل من طــرف أهل الرفقة )الرفكة( من مواد كالملح والتمر من أجل المقايضة، بمواد أخرى غير متوفرة في البلد الــذي انطلقت منه «الرفكة» من زرع، وســكر وشــاي، وأنواع الخنط مجموعة في ما يسمى باللهجة الحسانية «البيص».

وللإشــارة فإن المدة التي يمكــن أن تقضيها «الرفقة» لا يمكــن تحديدهــا إلا بالمــكان المقصود الــذي يمكن أن تصله في ما بين الشــهرين إلى الثلاثة أشــهر؛ وحسب بعض الباحثين والمهتمين بالتراث الشــعبي الحســاني، فــإن )الرفكــة( تحيط بها خــال رحلتهــا مخاطر جمة، منهــا قطاع الطرق، ناهيك من الأحوال الجوية من أمطار وعواصــف رملية وحرارة، وقلة الماء في بعض الأحيان، ونقص في الــزاد، وهــاك بعض الجمال فــي الطريق، وحتــى الأمــراض التي قد تصيــب بعــض أفرادها، كل

هــذا يخلق عنــد أهــل )الرفقة( معجزات، لأن «الحر» يعرف في الشدائد.

ويجمــع العارفــن بالموروث الشــعبي الحســاني أن يــوم عــودة «الرفقــة» يعد عيــدا عنــد أهل المــكان الذي انطلقــت منه، إذ يفرح الجميع بعودة الرجال الشــجعان إلى بلدهم، وإلى أهليهــم وذويهم، ثم يقومون بحفظ ما جاءت بــه القافلة من تجــارة قد تكفي مدة ســنة كاملة لتعــود القافلة إلــى ديدنهــا. ومن عاداتهــم أن صاحب القافلــة، أو أصحابها، يعطون الأهالي بعضا مما حملته القافلة، وهو المعروف عندهم «بالسهم» أي الحصة.

إن انتشــار اللصوصيــة وقلــة الأمــن، يــؤدي بأهــل الرفقة، إلــى أن يبنوا أبنية أمنية يحفظــون فيها زادهم، فيبعدونــه عــن عيــون المتربصــن، وقد عرفــت عندهم بـ«أكرن» يبنى تحت المســاكن، ويموه بحيث لا يستطيع أن يكتشــفه إلا من له علم بخريطة المنزل، ثم يغطونه وينشرون عليه الحصائر، وهــو بذلك يكون المخبأ المفضــل عندهم، وحســب التراث الثقافــي الحســاني، يكــون بهذه الطريقة تأمين جزء كبير من الزاد، عــن اللصــوص، بــل يمكــن أيضا تأمين الســاح بتلــك الطريقة من أجــل الدفاع عن النفــس والجهاد ضد المستعمر.

وحســب المعلومــا­ت المتوفــرة من لدن العديد مــن الذين يهتمون بــالأدب الشــعبي الحســاني وموروثــه، فقــد أكــدوا أن رجالا ســاهموا في إدامة ذهــاب الرفقة وعودتها من حيث التمويل المادي لها، فمنهم من كان يمتلك أربعمئة من الجمال تشــارك في الرفقة كل ســنة، التــي خصص جــزءا منها للفقــراء، الشــيء الــذي يؤكد أن هناك أيضا حق للسائل والمحروم في أنعام هؤلاء، كما أن الباحثين يؤكدون على أنه حتى من لم يساهم في )الرفكة( كان يساهم برأيه.

هذا الجزء من الموروث الشــعبي الحساني الذي كان يحمــل رمزية فــي التكافــل الاجتماعي ويؤثث لمشــهد تجاري، اســتخدم فــي مرحلة معينة مــن تاريخ مجتمع )البيظــان( لــم يعــد موجودا إلا فــي ذاكــرة البعض من المسنين، أو الروايات والقصص الشفهية التي أصبحت تحكى للأطفال، مترجمة شــجاعة آبائهم وأجدادهم في ركــوب الصعاب من أجل توفير ســبل الحياة، وإدامتها في ظروف صعبة بالغة الخطــورة، بينما يهمل الجوهر الذي يفند في فحواه أن «الآخر هو الجحيم».

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom