Al-Quds Al-Arabi

حفاظا على الزخرفة: تونسي يحول منزله لمعرض تحف قديمة

-

القيــروان - من ناجح الزغدودي: منزلــه العتيق في حي الباي في المدينــة العتيقة في القيروان )وســط تونس( تحوّل الــى معرض للتحف القديمــة، تغمــر أعماله غــرف الطابق العلــوي وتغطي جدرانــه المتجعدة من طول العمر، وقســمه الســفلي، ورشــة انعاش لقطع الأثــاث القديمة وإحيائها تزويقا وترقيشا.

يحمل الحرفي فــي فن الزخرفة على الخشــب وتزويق الأثاث، محمد العبــداوي، هاجــس المحافظــة على هــذه الحرفــة التي أصبحــت نادرة ومهددة بالاندثار مع غزو المصنوعات الحديثة.

ويغدق عليها من الألوان والزخارف ليحولها إلى أيقونات فنية، ويعيد تجديد الأثاث العتيق من التراث الإسلامي، الأندلسي والعثماني، ويبعث فيه روحا جديدة.َ

ومع حرفته التي تحفظ فنا وتراثا عريقا، يحرص العبداوي )50 عامًا( على تكوين عدد من الطلاب، ويمرر إليهم شــغفه وأسرار حرفته، ويسعى إلى إعادة نشر التصاميم العتيقة، وتجديد ما نال الزمن منها.فن الزخرفة على الخشــب، وتزويق الأثاث وغرف النوم العتيقة، والتحف، هي حرفة ضاربة في القدم منذ بدأ الإنســان يخط رســوما علــى الصخور، مثل تلك الرســوم التي حافظت عليها مغارة «عين الخنفوس» بجبل «وسلات» من محافظــة القيروان، والتي تعود إلى عصر ما قبل الكتابة وتجســم عملية صيد بري ومصارعة الوحوش.

رحلة بين الماضي والمستقبل

العبداوي بدوره يعيش صراعا لنقل هذه الحرفة التي تعلمها عن والده إلى المستقبل، فقد اكتشف شغفه بفن تزويق الأثاث منذ كان في سنّ 16.

كان يلازم والده ويسترق النظر إليه حين كان يعمل، فيختزن التقنيات والأســالي­ب وكل تفاصيــل الحرفــة، بما فيها تقاســيم الوجــه وطقوس العمل، حتى أنك تخاله عند انشــغاله بالرســم كأنه فــي لحظة غياب عن الوجود وانغماس في عالمه الخاص كمتصوف أو زاهد.

لم تكــن رحلته ســهلة، ولا يبدو مســتقبل حرفته مزهــرا أيضا، وثمة مزيج من الفخر والألم رافقه طيلة رحلته مع فن التزويق، فخر استمده من شــهادة والدته بأنه أصبح فنانا مكتملا و«معلما» كمــا ينطقها أهل البلد بلهجة محلية، وألبسته تاج كبير الحرفيين.

وسبب المرارة كما يرويها وهو يســتعيد سنوات من الذكريات المرهقة مثــل من خاض حربا وعــاد بكوابيس موجعة، هو «تأخــر اعتراف والده بجودة صنعته وبلوغ مرحلة الاحتراف».

يستحضر العبداوي كيف كان والده يعتبره مجرد هاو للحرفة، إلا أنه قبــل أيام من وفاته شــاهد عملا فنيا له في منزله عندمــا زاره وهو كهلا، وحــن علم أنه مــن صنعه أبدى إعجابــه به، وقال له «اليــوم اعترف أنك أصبحت معلم ومحترف».

واعتبر محمد أن والده «كان يســيء تقدير ما يصنع، ويقلل من شــأن عمله إلى أن صدع باعترافه الذي غيّر حياته، وأكســبه شــجاعة وألبســه كسوة الحرفي المعلم».

لا تنفــك تلك الذكريــات المرهقة تقفز إلــى قلب محمــد، فتزيد خفقانه كلما همّ بعمل جديد، لكنه يروِّض الهواجس بحنكته وتجربته ويحسمها بشهادة والده بأنه أصبح «حرفيا متميّزا».

ثراء وتنوع

يقسّم العبداوي مسكنه العتيق القريب من جامع الزيتونة، إلى جزئين، طابق علــوي خصص ليكون معرضا لما يصنع ويزوق من صنوف الأثاث والأدوات المنزليــة العتيقة، خاصة منها النــادرة مثل الفوانيس والمحامل والأطباق والصناديق ومقاعد الجلوس والطاولات.

وهذا الجزء تفرغت له إحدى بناته الجامعيات، التي لم تكتسب حرفة التزويق من والدها، لكنها تشد عضده بترويج ما يصنع.

يحتفــظ المعرض بأدوات منزليــة عتيقة صناعية وفلاحيــة، تعود إلى أكثر من مئة عام شــهدت على الحروب العالمية الأولى والثانية، وتعهدها محمــد بالصيانة والتجديد، وقال إن «هــذه القطع الأثرية التي رافقته في صباه إلى أن اقترب من الشيخوخة قد أصبحت جزء منه فكرا وجسدا.»

أما الطابق السفلي فهو ما يزال ورشة محمد العبداوي التي كبر فيها. وسط الســقيفة المربعة الواسعة المنفتحة على الســماء محاطا بتفاصيل البيــت العتيق الملهم بجدرانه الزرقاء وتفاصيلــه العتيقة التي ترافقه منذ طفولته، ينعزل محمد مع لوحاته، يسافر معها بخبرته وأدواته.

إقامــة محمــد في نهج البــاي أفعمت نفســه بأنه وريث شــرعي لملوك ونبلاء يمتلكون الأرض ويطمحون للإشعاع الكوني.

صعوبة في ترويج التحف

ما يقلق راحة العبداوي، حسب ما عبر عنه بكل ألم وتحسر، ليس فقط مشــكل ترويج منتجاته، خاصة في ظل الأزمة الوبائية العالمية التي أثرت على الســياحة الخارجية والداخليــ­ة، ولا في غياب المعــارض، ولا غياب الدعــم الرســمي، وإنما لأنه لا يوجد من ســيحمل عنه عــبء هذه الحرفة وحمايتها من الاندثار ولا من يرث شغفه وألوانه.

وكل من زاره من الشبان كانوا عابري سبيل ولم يقبلهم هذا الفن الذي يحتــاج إلى فنان يجمع بين الشــغف والصبر كما صبــر محمد لعقود مع والده.منافذ الترويج أمام محمد وابنته ليست كثيرة، فلا معارض محلية أو دولية، ولا دعوات رســمية، وإنما منفذه هي ســمعته الطيبة بين الناس التي تتكفل بها أعماله، وصفحة التواصل الاجتماعي التي أنشأتها ابنته، مديرة أعماله.

 ??  ?? محمد العبداوي في ورشة عمله
محمد العبداوي في ورشة عمله
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom