Al-Quds Al-Arabi

بشهادة «أوشفيتس» ومقال السفير الروسي: هكذا تقف الحركة الوطنية الفلسطينية على رأس «مزوري التاريخ»

- زلمان شوفال

■ بات مقبولاً منذ القرن العشرين النظر إلى الأحداث التاريخية من منظور التطورات الاجتماعية والاقتصادي­ة وغيرهــا. ينتج عن ذلك أنه من الصعــب رؤية علم ظاهر يقوم على أساس معطيات علمية واضحة أثناء البحث في الأحداث التاريخية. وهذا ليس جدالاً عبثياً، إذ إنه يؤثر على كيفية رؤية الشــعوب والدول لماضيهم، ولمستقبلهم أيضاً. ثمة حركات في مركز الخريطة السياســية، سواء من اليمين أم من اليســار، تُجري بين الحين والآخر إعادة تقويم لمفاهيمها في المواضيع المختلفة، ولكن ليس لدرجة إلغاء كل المســلمات القائمــة، ولكن محافــل متطرفة أو شعبوية، ســواء من اليمين أم من اليســار، لا تمتنع عن إعادة كتابة التاريخ وفقاً لمصالحها السياسية الراهنة.

لقد رأينا مؤخراً مقالاً للســفير الروســي في إسرائيل يقول إن روســيا هي التي أدت إلى استسلام اليابان في أواخر الحرب العالمية الثانية، أي ليس الولايات المتحدة، بل انتصارات الجيش الأحمر في منشــوريا. كل شخص ضالع في تاريخ الحرب العالمية الثانية يعرف بأن النصر النهائي حققه الأمريكيون فوق ســماء اليابان، وينبغي الافتــراض بأن هذا واضح للروس أيضــاً، ولكن تجدهم يغيرون التاريخ بسبب المواجهة بين موسكو وواشنطن.

تجري هذه الأيام في الولايات المتحدة محاولة لإعادة كتابة التاريخ. «مشروع 1619» الذي بادرت إليه صحيفة «نيويورك تايمز»، ونسقته الحائزة على جائزة بوليستر الإفرو-أمريكية، نيكولهانا جونز. ويدعي هذا المشــروع بأن التاريخ الأمريكي كلــه زائف كما يدرس في المدارس، وينبغي بدء التاريخ من العام 1619، السنة التي جيء فيها إلى ولاية فيرجينيا أوائل العبيد السود، وأن كل ما حصل بعد ذلك، بما فيه حرب الاســتقلا­ل الأمريكية، دستورها، وأفكارها المختلفة وما شــابه، هي أفعال مخادعة. برأيهم، نشــبت الثورة الأمريكية لا لأن الأمريكيين أرادوا التحرر من عبء الاســتعما­ر البريطاني، بل لأنهــم خافوا من أن يمنع الحكم البريطاني العبودية مثلما حصل في بريطانيا نفســها، فيفقد الأمريكيون جراء ذلك عمالهم الرخيصين. كما أن الدســتور الأمريكي جاء عمليــاً -برأي أصحاب المشــروع- لحرمان الســود مــن حقوقهــم. العديد من المؤرخين الأمريكيين، بمن فيهم باحثون إفرو-أمريكيون مشــهورون، وإن لم يترددوا في الإشارة إلى التشويهات الخطيرة فــي هذا البحث الذي يزعــم العلمية، ولكن في أجواء ‪Black Lives Matter‬ وانعدام التســامح في اليســار تجــاه الآراء الأخرى، من الصعــب التوقع متى

من الانتفاضة الثانية - أرشيف

وكيف يكــون بوســع الأمريكيين العاديــن أن يفتخروا بماضيهم دون أن يتهَموا بالعنصرية أو بأسوأ من ذلك.

مثال آخــر على إعــادة كتابــة التاريــخ يجري في إســبانيا اليــوم؛ فالائتــاف الحاكم الذي يتشــكل من الحزب الاشتراكي واليســار المتطرف، قرر تشريع قانون بأثر رجعي حــول الحرب الأهلية التي نشــبت في 1936 بين الثوار الفاشيين برئاســة الجنرال فرانكو والحكومة الديمقراطي­ة المنتخبة. وكما يذكر، تدهورت الحرب الأهلية في غضون وقت قصير إلى مواجهة دولية، حيث ساعدت ألمانيا وإيطاليا الثوار، فيما ســاعد الاتحاد الســوفيات­ي الحكومة. لقــد انقضت الحرب الأهلية منذ زمن بعيد وكذا ذكرياتهــا، ولكن القانون المقترح يدعــو إلى التقديم إلى المحاكمة لكل جهــة تتماثل تاريخياً مع الثــوار، ولتغيير تعليم التاريخ في المدارس، ويعلــن عن هدم المقابر التي يدفن فيها المقاتلون من الجانب الفرانكوي ويوشــك على إلغاء قرارات العفو التي اتفق عليها حين تحول إســبانيا إلــى ديمقراطية. من نــواحٍ عديــدة، كان فرانكو بالفعل في الجانب المظلم مــن التاريخ، فرجاله قتلوا عشــرات آلاف المعارضــن، ولكن هكــذا فعل أيضــاً الفوضويون والشــيوعي­ون الذين دحروا رجال الحكومة الديمقراطي­ة عن مواقعهم على مدى الزمن. ولكن ثمة جانب آخر أيضاً:

إسبانيا فرانكو لم تسلم لاجئين يهوداً للنازيين، كما فعلت سويســرا مثلاً. لم تبعث اليهود من مواطني إسبانيا إلى أوشــفيتس، مثلما فعلت فرنسا لليهود الفرنسيين. ومهم بقدر لا يقل: رفضت مناشدات هتلر الانضمام للحرب ضد الحلفاء وســد مضائق جبل طارق. لو فعلت هذا لأقصتهم عن البحر المتوسط وربما عن الشرق الأوسط بأسره.

وتقــف الحركــة الوطنيــة الفلســطين­ية على رأس مزوري التاريخ؛ فللمؤرخين الفلســطين­يين الحق الكامل في الاختلاف مع تصريح بلفور أو مع سياســة بريطانيا أو الولايات المتحدة في مواضيع بلاد إســرائيل والشرق الأوســط بعمومه، ولكن مثلما كتب البروفيسور شلومو افنري، فإن «الفهم الفلســطين­ي الأساس هو أن إسرائيل كيــان اســتعماري إمبريالي، وأن اليهود ليســوا قومية على الإطلاق، بــل طائفة دينية لا ينطبق عليها حق تقرير المصير، أي الدولة». ولتأكيد مواقفهم المزعومة، يطرحون حججاً ســخيفة ومتطرفة مثل رفــض التاريخ اليهودي في البلاد في كل العهود، وما شــابه. المأساة هي أنه كلما تمســك الفلســطين­يون بهذا التاريخ الزائف، فلا احتمال لتسوية النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom