Al-Quds Al-Arabi

رجل دولة: الشيخ صباح الأحمد

- *أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت

برحيل الشــيخ صباح تفقد الكويت زعيمــا من الرعيــل الأول، مــن الجيل المؤســس للدول الحديثة، الذي اختبر تناقضــات العالم من الباب الأوســع. الشــيخ صباح الأحمد المولود عام 1929 في قصر والده أمير الكويت الشيخ أحمد الجابر، شــهد أزمات إقليمية، كما شهد الحرب العالمية الثانية، وعاش تفاصيل نكبة فلسطين وهزائم الــدول العربية، ثم بروز الناصرية واســتقلال بلاده. فأمير الكويت كان ابنا لبيئته العربية والكويتية، والإشكالات التي أحاطت بها منذ أربعينيات القرن العشرين.

قلمــا تنفعل الناس وتشــعر بضيــق في العالــم العربي والإسلامي بسبب مرض زعيم سياسي وموته المفاجئ، هذه المرة ومع مرض الشيخ صباح أمير الكويت ارتفعت الدعوات والصلوات له، وهي الصلوات نفسها والشعور بالحزن الذي يأتي مع لحظة فراقه ووفاته اليوم.

لقد نشــأ الشــيخ صباح في الزمن الذهبي للعالم العربي وللكويت، بدأت تجربته السياسية، مع حكم الشيخ عبدالله الســالم الصباح، الذي أصبح أميــرا للكويت عام 1950، وقد عاصر الشــيخ صباح عملية تحول الكويت فــي ذلك الوقت من الكويت القديمة إلى تلك الحديثــة، وعاصر كويت ما قبل النفط إلى تصديره، ثم عاصر انتقال الكويت من إمارة تحت الحماية البريطانية لدولة حديثة مستقلة عام 1961.

ففي 1954، أصبح الشيخ صباح الأحمد عضوا في "اللجنة التنفيذيــ­ة العليا"، وهي بمثابة مجلــس الوزراء المصغر قبل الاستقلال، ثم في عام 1957 تحمل مســؤولية رئاسة "دائرة المطبوعات والنشــر". كان ذلك في زمن الدوائر، التي سبقت استقلال الكويت ببضع سنوات. وقد نتج عن تلك المسؤولية إصدار الجريدة الرسمية للكويت تحت اسم "الكويت اليوم"، ثم صدور أشــهر مطبوعة عربية ثقافية فــي الوطن العربي "مجلة العربي" التي تــرأس تحريرها في أولى مراحلها المفكر العربي المصري تادكتور أحمد زكي. وقد تم إصدار أول قانون للمطبوعات والنشر، ما فتح الباب للصحافة السياسية.

وقد شــارك الشيخ صباح الأحمد وزيراً للأنباء والإرشاد، في أول حكومة اســتقلال في المجلس التأسيسي الذي أسس وصاغ دســتور الكويت عام 1962. ومع دستور الكويت عام 1962 بدأت التجربة الفعلية للشيخ صباح الأحمد، فتلك كانت بداية تجربة حاسمة في تأسيس دولة، وتحقيق صمود أمام أزمة نشبت مع العراق في الأيام الأولى للاستقلال.

سيختبر الشيخ صباح الأحمد عبر مسيرته الثمينة تجارب مختلفة، وفوق كل شــيء ســيعرف بصفتــه وزير خارجية الكويت، وفي حالات كثيــرة وزير خارجية العرب، لقد تولى ذلك المنصب ابتداء من 28 يناير/كانون الثاني سنة 1963، في ظل حكومة الشيخ صباح الســالم الصباح الثانية. منذ ذلك الوقت احتفظ الشيخ صباح الأحمد بمنصب وزير الخارجية، في أغلبية الوزارات التي تلت ذلــك التاريخ. وبصفته وزيرا للخارجيــة كان قد تبنى تطوير منطقة الخليج والمســاعد­ات التعليمية والصحية لدول خليجية وعربية شــتى، أرادت أن تستقل وأن تحقق نهضتها.

كان للخارجيــة الكويتيــة في عهــده دور مهــم في دعم المبــادرا­ت باتجاه الإمارات وعمان واليمــن والبحرين، وقد ميــزت الكويت سياســاتها في الشــأن العربــي، من خلال الصندوق الكويتي للتنمية، وهيئة جنوب الخليج التنموية، إضافة لمشاريع كبرى في السودان وغيرها من الدول العربية. تلك الحقبة المنفتحة على التعليم والاستقلال عكست توجهات الشــيخ صباح الأحمد، وحرصه في الوقت نفسه على إدارة الملفات المختلفة بتوازن وحكمة، لكن الأهم أن تلك أيضا كانت سياســة كويتية عبّر عنها الشارع الكويتي ببرلمانه المنتخب، وعبّــر عنها قادة الكويــت في حينها بتنــوع اتجاهاتهم، بل حتى فــي أحلك فترات حــرب اليمن في بداية الســتينيا­ت، وقف الشــيخ صباح الأحمد باعتباره وزيرا للخارجية موقفا متوازنا، وهذا عبّر بصورة واضحة عن موقف الكويت، الذي تفادى سياســة المحاور العربية والحــرب الباردة بين الدول العربيــة، بما فيها بناء توازن إيجابي في العلاقة مع الرئيس المصــري جمال عبد الناصر. منذ تلــك الفترة والكويت تتخذ خطا عربيا مستقلا، ينبذ الخلافات العربية ـ العربية، ويثبت مركزية القضايا الخاصة بالسلام وقضية فلسطين.

حتى قبل غزو الكويت عام 1990 بأيام، ردّ الشــيخ صباح عندما ســألته الصحافة بمن سيســتنجد في ظــل الأزمة مع نظام صدام ليرد بســرعة: ســأذهب للجامعة العربية. أراد الشــيخ صباح حلا عربيا، فــي هذا انتقــده البعض لأنه لم يلجــأ للولايات المتحــدة فــورا، إلا أنه بوعي منــه أراد ان يحتمــي بالمظلة العربية، ويعطي الفرصــة للحل العربي في شهر يوليو/تموز 1990، ولهذا السبب بمجرد سقوط الكويت عرف أنه لن يكون هناك حل ســوى التدويل. ورغم كل ما ألم بالعلاقات العربية بســبب الغزو، إلا أنه لعب دورا مميزا في اســتعادة علاقات الكويت مع بقية الــدول العربية، كالأردن ومنظمة التحرير والسودان واليمن، ولعب دوره في محاولة تســوية ما تبقى من قضايا عالقة مع العراق بعد الغزو. فعلى الرغم من كل الأزمات التي مــرّت على العالم العربي، لم يفقد الشــيخ صباح الثقة بمبــادئ الحوار وتهدئــة الأزمات، بل وتحييد الخصوم وكســب المحايدين. هذا هو الســبب الأهم الــذي أعطاه لقب "حكيم العرب". كان الشــيخ صباح حكيما في فهم طبيعة النزاعات العربية، وطبيعة حدودها والأبعاد العاطفية التي تتحكم فيها.

وقد ترأس الشيخ صباح، أول حكومة في الكويت عام 2001 وأصبح رئيسا ثابتا للوزراء عام 2003، فهو أول رئيس وزراء بعد أن قامت الكويت بفصل ولاية العهد عن رئاسة الحكومة، لكنه في عام 2006 سيصبح أميرا للكويت، بعد أزمة دستورية قصيرة، تم التعامــل معها بحس مســؤول، وانتقال متفاهم عليه وافق عليها مجلس الأمة الكويتي بإجماع أعضائه.

تميز الشــيخ صباح الأحمــد بقدرته على فهــم البوصلة الصائبة، وسط ضجيج السياســة والسياسيين، بل ووسط قرع طبول الحرب. من ينســى موقفه السريع كأمير للكويت من الأزمة القطرية عام 2017، فبمجــرد انفجار الأزمة تحرك متحدثا مع قادة المملكة الســعودية والإمارات، كما تحدث مع قادة قطر. سار مســافات وركب طائرات وأمضى أوقاتا، وهو في عمر متقدم، بهدف تهدئة الموقف ومنع اســتمرار الحصار والمقاطعــ­ة الموجهة ضد قطر، كان هدفــه إيصال الجميع لحل مناســب لا يتعارض مع مبادئ الســيادة. فــي أزمة الخليج وحصار قطر ســعى الشــيخ صباح الأحمد لإنقاذ الخليج من ســقوط مجلس التعاون. وعندما ذهب للبيت الأبيض فاجأ الجميــع عندما أعلن أن وســاطته في حدهــا الأدنى "تفادت عملا عســكريا"، ووضعت حــدودا للأزمــة ومخاطرها على منطقة الخليج.وحتــى في فترة التدخل العســكري من قبل المملكة العربية الســعودية في البحرين بسبب حراك الشعب البحريني، إلا أن الشــيخ صباح، بصفته أميــر الدولة، كان

يفضل منطقا آخر في التعامل يمنع الحل العسكري والتدخل، لهذا عندما وجد أن الالتــزام الخليجي يفرض عليه التدخل، أرســل بعثة طبية. كما في حرب اليمن، كان للشــيخ صباح الأحمــد حرصه على عدم التورط في اضطهاد شــعب عربي، أو القيام باحتلال أراض يمنيــة، وعندما لاحت الفرصة لحل سياســي دعا الحوثيين، كما الحكومة في المنفى، وكل الفرقاء لحوار سياسي، بل كان من الطبيعي أن يعتبره الحوثيون كما الحكومة الرسمية الطرف المقبول للوساطة.

لو أخذنا موقفه من القضية الفلسطينية كعنوان أساسي، فمنذ أصبح أميرا عام 2006 سخّر الشيخ صباح، الكثير لدعم القضية الفلسطينية، فقد قاد حكومة تنتقد سياسات التطبيع وترفضهــا. أذكر بينما كان الشــيخ صباح وزيــر الخارجية عين الدكتــور فايز الصايغ بعد حرب 1976 مستشــارا لبعثة الكويت فــي الأمم المتحدة، كان دور الصايــغ الذي يعود في جذوره لفلســطين المحتلة تغطية القضايا العربية والقضية الفلســطين­ية، فقد كان الدكتور فايــز الصايغ المحاضر الأهم فــي ذلك الزمن في طول الولايات المتحــدة وعرضها، بل عبر سياسته الذكية في أواخر السبعينيات هندس الشيخ صباح الأحمد من خلال الأســتاذ عبدالله بشــارة ممثل الكويت في الأمم المتحــدة، لقاء تاريخيا بين ممثــل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، وممثل منظمة التحرير الفلســطين­ية في الأمم المتحدة، مــا أدى في ما بعد لاســتقالة أنــدرو يونغ مندوب الولايات المتحدة في المنظمة الدولية.

إن رؤية الشــيخ صباح وفهمه للعالم، رغم قيادته لدولة جغرافيتها صغيره، وعدد ســكانها صغير، لم تهتز بســبب الضغوط والعواصف، فدعمه للقضية الفلســطين­ية لم يهتز بعد أن أصبح أميرا، فعلى الرغــم من موازين القوى المضادة للقضية الفلســطين­ية في ظل إدارة ترامب مــن 2016، إلا أنه بقي ثابتا علــى مبدئه. فقد طلب من بعثــة الكويت في الأمم المتحدة في مجلس الأمن أن تتصدى لمنع إعلان حماس حركة إرهابية، وقد نجح في تحقيق ذلك في مجلس الأمن في مايو/ أيار 2018، كما حدد موقفا واضحا مــن صفقة القرن، لحد أن الكويت قاطعت ورشــة صفقة القرن في البحرين في يونيو/ حزيــران 2019. وعندما قــام رئيس مجلس الأمــة الكويتي مرزوق الغانم بتحديد موقف واضح من مشــاركة إســرائيل في عدد من المؤتمرات البرلمانية الدولية، جاءه دعم مباشــر وفوري من الأمير صباح الأحمد للاستمرار في موقفه.

والمميز في مواقف الشــيخ صباح الأحمد، أنه بينما ســاد التصعيد العلاقــات الأمريكية الإيرانية، كما ســاد العلاقات توتــر كبير بين أكثر مــن دولة خليجية وإيــران، إلا أنه بقي على مسافة متزنة من إيران، استمر صاحب مدرسة حوار، لم يصعّد، لم يدع لضربات عسكرية، لقد تعلم الشيخ صباح من التاريخ الحديث كالحرب العراقيــة الإيرانية، وغزو العراق للكويت وعشرات النزاعات والحروب أن الحل الصفري ليس حلا، بل سيزيد من الأزمات تعقيدا وصعوبة.

الأمــر ذاته انطبق على علاقات الشــيخ صباح الأحمد مع تركيا، فبينما قاطعــت بعض الدول العربية تركيا، اســتمر الشــيخ صباح في علاقة صداقة مع الرئيــس التركي رجب طيب أردوغان، لــم يقاطع تركيا بل ثمّن موقفها السياســي من القضايا العربية والفلســطي­نية، كما أنه رفع من درجات التنســيق منذ 2017 بين الكويت وتركيا. في هذا عبّر الشيخ صبــاح الأحمد عــن رؤية ثاقبة فــي فهم تناقضــات الإقليم وضرورات إبقاء الخيوط والجسور مفتوحة مع تركيا ثم مع

إيران ومع كل الدول من أجل السلام والاستقرار.

وعُرف عن الشــيخ صباح ســعيه لمد الجسور مع العراق، فرغم التاريخ السلبي بين البلدين، إلا أنه كان الأكثر حماسة لفتح صفحة جديــدة، لهذا دعــا القادة في العــراق لزيارة الكويت، بينمــا كان من بين أقلية من الرؤســاء العرب ممن ذهبوا للعراق لحضور القمة العربية المنعقدة فيها عام 2013. كما أنه دعا لموتمر إعادة بناء العراق في 2018 عندما وجد أن ذلك مفيد للعراق. بإمكاننا أن نسرد المزيد: لنأخذ مثلا موقفه الإيجابــي والمتوازن من الأزمــة الليبية، منذ ســقوط نظام القذافي، ثم موقفه من الأزمة الســورية والنظام السوري. إن هذه الاســتقلا­لية في الخط الكويتي، لم تعن إساءة العلاقة مع المملكة العربية الســعودية، وعندما طرحت قضايا تتعلق بالارض والحدود كان له موقف واضــح في حقوق الكويت. وفي النهايــة وقع الاتفاق الكويتي الســعودي حول المنطقة المشــتركة والاتفاق على اســتخراج النفط منهــا عام 2019. الأزمــات تقع بين الــدول، لكنه كان حريصا على اســتيعاب أبعادهــا قبل أن تتفاقــم، كما أنه كان حريصــا على مجلس التعاون وإنقاذه من التفكك والنزاع. ورغم تعقيدات الوضع الداخلي الكويتي المتأثر بعواصــف الإقليم وحراكه العربي عام 2011، إلا أن الشيخ صباح الأحمد عرف كيف يحافظ على التعددية السياســية في الكويت. وبينما ذهب عدد من الدول العربيــة نحو الاجتثاث السياســي تجاه قوى في الشــارع وقوى سياســية كالإخوان المسلمين والحقوقيين وغيرهم، إلا انه أبي أن يســير في هذا الطريق. أخذ الشــيخ صباح خطا فــي التعامل مع المعارضة والاراء النقدية والحراك الشــعبي النقــدي. لا يعني هذا انه لم تقع تحديــات وآلام، وأحكام من القضاء أخذ الكثيــر منها طريقه للتنفيد، لكــن أمير الكويت الشــيخ صباح الأحمد لم يغال في الموقف، لم يمنع المعارضين الكويتيين من الخروج من البــاد قبل صدور الأحكام عليهم، ولم يلاحقهم في الخارج، أو يســعى حتى لتســليمهم. ترك كل شــيء للظروف ولتطور الأوضاع ولتهدئة النفوس. وقد اســتوعبت الكويت عددا من المعارضين الذين عادوا للكويت مؤخــرا. علــى الرغم من مشــاركة الكثير من الشــخصيات الكويتية من تيارات مختلفة بالدعوة للعفو وإسقاط الأحكام بصورة غير مشروطة، إلا أن الشــيخ صباح الأحمد لم يمنع الناس والقوى السياســية والنواب في الكويت من التعبير عن مواقفهم والاختلاف في الــرأي، وهذا ما ميز الكويت عن غيرها منذ نهاية الربيع العربي لليوم.

كل عهد فيــه ســلبيات وإيجابيات، لكن الشــيخ صباح ظل فوق المرحلة، أحبته الناس بســبب مبادئه وشــجاعته، وحرصه على التــوازن وخاصة مقدرته على حماية الكويت، وســط أحداث كبيرة في منطقة الخليج والإقليم العربي. لقد أصبح اســم الشــيخ صباح في كل مكان عربــي، فهو ينتمي لمدرسة من القادة التي تحترمها الشعوب العربية من المحيط للخليج. ليس غريبا أن يحصد الشــيخ صباح الأحمد جائزة مــن الأمين العام لــأمم المتحدة عــام 2014 تقديــرا لمواقفه الإنسانية. ترك الشيخ صباح البصمة الأهم، فقد لقب بحكيم العرب لانه لم يعرف التهور والتســرع، ولم ينجر لسياسات مغامرة. رحمه الله، وأســكنه فســيح جناته، وصبّر أسرته، ومحبيه وشعبه الكويتي وشعوب العرب والعالم الإسلامي على غيابه.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom