Al-Quds Al-Arabi

جحا والمصالحة الفلسطينية

- *كاتب فلسطيني

فــي كل مــرة يجــري الحديــث عن المصالحة الفلســطين­ية، يرتفع منسوب الأمل بين أبناء الشــعب الواحد، احتفالاً بقرب انتهاء نكبتهم الثانية التي ســببها الانقســام، ورغبة منهم في طي صفحة الماضي والتركيــز على معركة التحرر من الاحتلال الصهيوني الغاشــم، لكن منســوب الأمل أياً كان مصدره يتــآكل في كل مرة تنطلق جولة جديــدة من جولات الحــوار، نظراً لتكرار الانتكاســ­ات التي أطاحت بجولات المصالحة الســابقة على اختلافها.

ومع انطــاق عجلة الحوار، الذي أعقــب اللقاء التاريخي للأمناء العامين للفصائل الفلســطين­ية، مطلع الشهر الحالي، عاد الأمــل للانبعاث من جديــد، لكنه ليــس بالصورة التي توقعها البعض، نظراً لرغبــة الكثيرين في رؤية نتائج عملية ليقتنعوا بجدية المصالحة ومصداقيتها هذه المرة. وعليه فإن غياب الحماســة لا يعني غياب الاهتمام، وإنمــا يعني تريث الكثيرين حتى تظهر جدية الأمور وصوابيتها.

ومــع انتهاء الجولــة الأخيرة مــن حوارات إســطنبول

والدوحة مــروراً بالقاهرة وعمــان، فإن الالتــزام بتحقيق المصالحة يكتســب زخمــاً جديداً فــي خضم صفقــة القرن، ومشــروع الضم، ومسلســات التطبيع العربيــة المتلاحقة، ومــع دوران عجلة المصالحة، وبدء التحضير لجولة ثانية من اجتماع الأمنــاء العامين للفصائل الفلســطين­ية، فإن المتوقع من الجميــع أن يدعم جهــود المصالحة عبر توفيــر المناخات التصالحية ودعمها، قولاً وعملاً، لتســتطيع شمعة المصالحة أن تتوهج أكثر فأكثر، خاصة أنهــا تقع في عين العاصفة، وما يحيط بعالمنا السياســي من أنواء وتحديــات. لكن البعض وللأسف يختار التشكيك والتوجس مساراً ونهجاً في محاكمة المشــهد الناشــئ، الذي ما يزال في مراحل التكوين والنبوغ، وهو ما يعيد التذكير بقصة شهيرة لجحا وابنه.

وتقــول تفاصيل القصــة بأن جحا قد قرر الســفر مع ابنه وحماره تحت لهيب الشــمس الحارقة، فركب هو على الحمار، بينما مشى ابنه إلى جانبه فانتقد الناس تصرف جحا متهمين إياه بخــرق حقوق الطفل وإهماله لابنه، فمــا كان منه إلا أن ترجل عن حماره وأركــب ابنه مكانه، بينما قرر هو المشــي.

هنا عادت الناس وانتقدت ما ســمته بقلة احترام الابن لأبيه، وإصــرار الابن على ركــوب الحمار، وترك ابيه تحت أشــعة الشــمس النارية. عندها قرر جحا ووالده ركوب الحمار معا، ودونما إبطاء، فما كان من الناس إلا أن ســارعوا لاتهام الأب وابنه بالوحشــية، جراء ما اعتبروه عــدم اهتمامها بالرفق بالحيوان. عندها ما كان من جحا إلا أن قرر بعد ذلك أن يحمل وابنه الحمار اســترضاءً للناس! فما كان مــن الناس إلا وأن انفجرت من الضحك معتبــرة جحا وابنه قد أصيبا بالجنون! لذلــك فإنه ومع الاحتــرام والتقدير لــكل الآراء والمقترحات والانتقادا­ت، التــي تقود جهود المصالحــة الآن فإن المطلوب هو توفير شبكة الدعم الشــعبي الفلسطيني، وإسناد النخب الوطنية للحوار بما فيها مؤسسات المجتمع المدني، ومكونات الأسرة الفلســطين­ية على اختلافها في الوطن والمهجر، بجهد يصل أبناء وبنات فلسطين جميعاً، وذلك لما تمثله المصالحة من حالة وعي ونضوج مهمة تنفض غبار الخلاف وتلتزم بتماسك البيت الفلســطين­ي مشّــكلة رداً طبيعاً على مغامرات ترامب وحلفائه الصهاينة وجمهور المطبعين المنزلقين.

إن الإصــرار على التشــكيك والمراهنة على فشــل الحوار لن يكون في صالــح المصالحة، كما أن الإفراط في الشــروط والمعيقات والشكاوى والأنين لن يخدم إلا طموحات الراغبين باستمرار الانقسام، لأســباب باتت مكشوفة، وأسباب أخرى لا يعلــم بها إلا الخالق وأصحابها. لقــد دارت عجلة المصالحة بإيجابية عالية وبروح مســؤولة ناضجة تبحث عن الخروج من دائــرة الانهيار، على أمل أن لا نتســبب نحن في انهيارها وفنائها. فلا يعقــل أن ننتقد غياب الديمقراطي­ة لنعود وننتقد قرارنــا بالاحتكام لصندوق الاقتراع، وهو مــا يتقاطع والمثل الإنكليــز­ي القائــل: مدان أن فعلــت ومدانٌ إن لــم تفعل. إن المصالحة اليوم على وشك الخروج من حيز المراوحة إلى حيز التســارع، وهي بحاجة حتماً لدعم الصادقين الغيارى لأن في فشلها لن ننال سوى البؤس والحسرة ليعود جحا ويتندر هو علينا بأننا وقعنا وإياه في الفخ ذاته!

 ??  ?? د. صبري صيدم*
د. صبري صيدم*

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom