Al-Quds Al-Arabi

إبراهيم نوار

- *كاتب مصري

خلال فتــرة رئاســته الأولــى وعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعادة العسكريين الأمريكيين من الخارج، تحت شعار «أمريكا أولا» وفي ظل هذا الشــعار أيضا وصف ترامب حروب الشــرق الأوسط مثل ســوريا والعراق بأنها «حروب لا نهاية لها» و»لا طائل منها». وعلى هذا الأســاس فإنه شــرع في تخفيــض عدد القــوات الأمريكيــ­ة في ســوريا والعراق وأفغانســت­ان، وقاوم بشدة إرســال قوات إلى السعودية، ما لم تدفــع المملكة مقابلا ماليــا، يتضمن تكلفة إرســال وإبقاء هذه القــوات، إضافة إلى تعويضات كافية لتكلفة وجود قوات أمريكية تحمي الأسرة الحاكمة في العقود الماضية.

سياســة ترامب تجاه الشرق الأوســط والهند، ربما كانت الأكثر نجاحا خلال فترة رئاســته الأولى، مقارنة بسياســته تجــاه الصين وإيران وكوريا الشــمالية وروســيا وفنزويلا. وفي كل من المنطقتين، الشرق الأوسط والهند، لعبت إسرائيل دورا محوريا في تعزيز نجاح السياســة الخارجية الأمريكية. هذا الدور الإســرائي­لي كان بمثابــة )رد الجميل( إلى الرئيس الذي وقف مع إســرائيل ضد إيران، واعتبر أن المســتوطن­ات الإسرائيلي­ة شرعية، على العكس من سلفه باراك أوباما، وقرر نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ونقل السياسة الخارجية الأمريكيــ­ة تجاه إيران من الســعي إلى بنــاء )وفاق عربي - إيراني( إلــى )بناء محور عربي - إســرائيلي ضــد إيران(. وكانت نهاية الفترة الثانية لحكم الرئيس الأمريكي الســابق بــاراك أوباما قد ســجلت صدامــا كبيرا مع إســرائيل، في ما يتعلق بالمستوطنا­ت، ومع العرب في ما يتعلق بإيران. وبينما حاول إرضاء إســرائيل باتفاق مســاعدات طويل المدى، فقد حاول أيضا تخفيف حدة الخلاف مــع العرب، بدعوة قيادات مجلس التعاون إلــى قمة خليجية - أمريكيــة في مايو 2015 في كامب ديفيد، أكد فيها على استمرار التعاون الاستراتيج­ي بين الطرفين. وعندما طلبــت دول الخليج توقيع وثيقة للدفاع المشــترك، رد أوباما أن الولايات المتحــدة تحركت للدفاع عن الخليج في كل المناســبا­ت بدون الحاجة إلى أي اتفاق مكتوب بين الطرفين، لكن أوباما استمر في محاولة إقناع دول المجلس بأهمية ما يمكن تسميته )الوفاق العربي- الإيراني( كأساس لتحقيق الاســتقرا­ر في المنطقة. وقد انتهــت فترة حكم أوباما بالكثير من الشعور بالنقمة عليه وعلى سياساته في الأوساط الخليجية، باســتثناء قطر والكويت وسلطنة عمان؛ فقد كانت الأخيرة وما تزال تؤمن بأن بناء السلام في المنطقة على أساس الثقة المتبادلة هو طريق تحقيق الاستقرار المنشود.

جاء ترامب إلى الشرق الأوسط، بعد أشهر قليلة من توليه مهام الرئاسة رسميا، مبشــرا بسياسة جديدة، تتمحور حول العداء لإيران، وترى أن مواجهتها يجب أن تكون عبر تشــكيل تحالف إقليمي عســكري، وهو ما عبّر عنــه )إعلان الرياض( فــي مايــو 2017. وخلال الفتــرة التالية حتــى نوفمبر 2019 تولــت الإدارة الأمريكية عملية دفع قويــة لتحويل التحالف الاستراتيج­ي للشــرق الأوسط )ميســا( من مجرد فكرة إلى هيكل إداري وعســكري قائم فعلا على الأرض. وشــاركت في هذه العمليــة أجهزة وزارتي الخارجيــة والدفاع، إضافة إلى مجلس الأمن القومي. وتكشــف المناقشــا­ت التي جرت خلال تلك الفترة أن المســؤولي­ن عــن التخطيط السياســي في تلك الأجهزة قد أقاموا فلسفة التحالف على أساس مواجهة التهديد الإيراني، باعتباره التحدي الرئيســي للاســتقرا­ر والسلام والتنمية في الخليج، وفي منطقة الشرق الأوسط ككل.

وطبقا لمداخلة تقــدم بها ميك ميلروي نائب مســاعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الشــرق الأوسط في أبريل 2019 فإن التهديد الإيراني يتضمن خمســة تهديدات فرعية، تتمثل أولا في سعي إيران لامتلاك سلاح نووي. وثانيا في تهديدها لأمن الملاحة البحرية في المنطقة. وثالثا في مساندة ودعم المنظمات المســلحة غير الحكومية مثل حركة الحوثي في اليمن، وحزب الله في لبنان، والحشــد الشــعبي في العــراق، وتوفير ملاذ آمن لقيــادات «القاعدة». ورابعا في تطوير برنامج الصواريخ الباليستية التي تم اســتخدامه­ا بالفعل في أماكن مثل اليمن. وخامســا في مجال الأمن السيبراني، حيث تنشط إيران بقوة في هذا المجال في السنوات الأخيرة. وقال ميلروي إن الرئيس الأمريكي مصمم على ألا تمتلك إيران سلاحا نوويا، ولذلك فإنه يشجع قيام تحالف إقليمي ضد إيران.

لكن التنفيذ الفعلي للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ عــام 2017 أثبــت أن هــذا التصميم من جانــب الرئيس الأمريكي يصطدم بثــاث عقبات، الأولى هــي تعهد الرئيس بتخفيف أعباء وجود قــوات أمريكية خارج الحدود، والثانية أن الدول العربية الشــريكة للولايات المتحدة لا تشارك بالقدر الكافي في أعباء الاحتفاظ بقوات في المنطقة. أما العقبة الثالثة فهي الصراعات والخلافات السياســية بين دول الخليج في ما يخص العلاقات في ما بينها، وفي الموقف من إيران. وقد لاحظ جــون بولتون مستشــار الأمن القومي الســابق، أن الخلاف الخليجــي - القطري يضعف الموقف الخليجــي تجاه إيران.

ولذلــك فإنه أوصى فــي يونيو عام 2018 بضــرورة أن تعمل الإدارة الأمريكية على «تغيير حســابات شركائنا في المنطقة .» ومــن أجل ذلك تم تعيين الجنرال المتقاعد أنطوني زيني بقيادة عملية المصالحة بين طرفي النزاع الخليجي، كما بعث الرئيس الأمريكي برسائل إلى قيادات تلك الدول محذرا من خطورة هذا النزاع على تماســك المحور المعادي لإيران في المنطقة. وتم عقد لقاء عربي - أمريكي في الرياض في أبريل 2019 شــاركت فيه الولايات المتحدة، ودول مجلس التعاون الســت، إضافة إلى الأردن، ولم تحضره مصر، التي فضلت الابتعاد عن المشروع. ويمكن القول بأن جهود الإدارة الأمريكية فشلت حتى الآن في خلق موقف مشترك يمثل أرضية صلبة لإقامة ذلك التحالف.

وكانــت وزارة الدفــاع الأمريكية في وقــت تولي جيمس ماتيس، قد أعدت خططا تفصيلية للبــدء في عدد من البرامج لإقامة الهيكل الإداري والعسكري للحلف، بعد اختيار المنامة، مقر قيادة الأسطول الخامس الأمريكي، مقرا للحلف. وتضمنت هذه الخطط برامــج لبناء القدرات العســكرية، وإعداد رؤية مشتركة تتضمن استراتيجية للتعامل مع المخاطر والتهديدات، وكذلــك بناء قدرات عملياتية مشــتركة، من خــال المناورات والتدريبات المشــتركة، والتســليح وتبادل الخبــرات. ولم تستبعد وزارة الدفاع استخدام القواعد العسكرية الأمريكية، لكن أيا من هذه الخطط لم يجد طريقه للتنفيذ.

وقد ترافق القصور في النتائج علــى صعيد بناء التحالف مع قصور في اســتجابة الــدول الخليجية لمطالــب الولايات المتحدة في ربيع عام 2018 بأن تشــارك، خصوصا السعودية، في المجهود العســكري الأمريكي في ســوريا بالمال والســاح والرجال، بــل إن وزارة الخارجية الأمريكية رصدت محاولات من بعضها لتحســن علاقاتها مع بشار الأسد. وكانت النتيجة أن أجهزة وزارتي الخارجية والدفــاع ومجلس الأمن القومي بــدأت في وضع خطط عملية لتخفيف الوجود العســكري في سوريا، والشرق الأوســط على وجه العموم، بما في ذلك دول الخليج. وطبقا لتقديرات خبراء عســكريين فإن حجم القوات الأمريكيــ­ة في منطقة الخليــج فقط )بدون العراق وســوريا وافغانســت­ان( يتراوح بين 45 ألفا إلى 65 ألف عسكري، وهو رقم ضخم جــدا إذا عرفنا أن حجم القــوات الأمريكية في كل الدول الأعضاء في حلف الناتو يبلغ 35 ألف عسكري فقط. وقد بدأت الولايات المتحدة بالفعل تخفيف وجودها العسكري في المنطقة، بدءا من شمال شرق سوريا والعراق، ورفضت تقديم قوات مجانية للدفاع عن السعودية، وتتجه حاليا إلى تسريع

معدل ســحب القوات، حيث تعهد الرئيس الأمريكي بتخفيض عدد القوات فــي كل من العراق وأفغانســت­ان بمقدار النصف تقريبا، لتصل بنهاية الشهر الحالي )سبتمبر( إلى 3000 جندي في العراق، وإلى 4500 جندي في أفغانستان في أوائل نوفمبر المقبل.

إن متابعة اتجاهات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تكشف عن وجود لغز يحتاج إلى تفسير، يتعلق بالتناقض بين مبالغة الولايات المتحدة في تصويــر التهديد الإيراني، وقرار الإدارة الأمريكية بالإنســحا­ب من المنطقة، باســتثناء وجود القوات والمعدات المســتأجر­ة. لكن حل هذا اللغز لا يحتاج إلى مجهــود كبير، إذا اعتبرنــا أن تطبيع العلاقات مع إســرائيل أصبح يمثل الأســاس لإقامــة محور إقليمــي لمواجهة التهديد الإيراني، يستطيع بمساندة أمريكية، ان يلعب الدور المطلوب، ويؤدي في الوقت نفسه إلى تحرير القوات الأمريكية من البقاء في الشــرق الأوسط، بدون أن تترك وراءها حالة من الفوضى الشديدة في ســاحة مفتوحة على مصراعيها للنفوذ الإيراني والروسي والصيني. ولا تتضمن الوثائق الأمريكية الرئيسية، مثل اســتراتيج­ية الأمــن القومي والاســترا­تيجية الدفاعية، إشــارة إلى تهديد تركي للمنطقة، على اعتبار أن تركيا ما تزال عضوا في حلف شــمال الأطلنطي، وأنه سيتم تطويع مواقفها لمصلحة الحلف في نهاية الأمر. من هنا يمكننا أن نســتنتج أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، يمثل الآن أساس الإستراتيج­ية الأمريكية الجديدة للشــرق الأوسط، التي ستنتقل من خلالها راية القيــادة للمنطقة مــن الولايات المتحدة إلى إســرائيل، لتصبح المتصرف العسكري والاستراتي­جي في شؤون الشرق الأوسط، بعد 72 عاما من قيامها. وبهذا فإن الدورة التاريخية لاستراتيجي­ة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط تكون قد مرت بثلاث مراحل رئيســية. في المرحلة الأولى اعتمدت على وجودها الإستراتيج­ي المباشــر لحماية مصالحها في المنطقة، مثل النفط وأمن إســرائيل، وغلق بوابات النفوذ الروســي، وحمايــة حلفائها المحليين. وفي المرحلــة الثانية زاد اعتمادها علــى وكلاء محليين، كبار أو صغار أهمهم إســرائيل وضمنت تفوقهم. وفي المرحلة الثالثــة تنتقل الآن إلى ترتيبات إقليمية مستدامة بقيادة إســرائيل لتحقيق الأمن الإقليمي بأقل تكلفة ممكنة. تقسيم العمل الدفاعي الإقليمي بين إسرائيل والولايات المتحدة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom