ماذا تبقّى من جمال عبد الناصر بعد نصف قرن؟
ينتمي كاتب هذه الأســطر إلى جيل حرّكته صدمة الهزيمة العربية في حرب يونيو/ حزيران 1967. وقد كشفت تلك النكبة الثانية، التي حاول عبد الناصر تلطيف وقعها على النفوس بتســميتها «نكســة» كشــفت مدى تعفّــن النظام الناصــري وتآكله الداخلــي وإخفاقه في تحقيــق الطموحــات التــي عيّنها لنفسه، وهو إخفاق درجت تســميته في ذلك الزمن «إفلاس الأنظمة البورجوازيــة الصغيرة» لدى جيل تجذّر قســم كبيــر منه باتجاه اعتناق مقولات مســتوحاة من الماركسية، استعارت بعض تعابيرها ومفاهيمهــا ولو بصورة ســطحية جداً في أغلب الأحيــان. في ذلك الزمــن، بتنا نرى في الناصرية صنفاً آخــر من اليمين وإن كان صنفاً وطنياً مناهضــاً للصهيونية وللإمبريالية. وبتنــا نتطلّع إلى تغيير ثوري قادم لا مُحال وحرب شعبية على الصهيونية والإمبريالية على غرار مقاومة الشعب الفيتنامي البطل للعدوان الأمريكي.
تبدّدت الأوهام والأحلام منذ ذلك الزمن، وقد حلّ محلّ الناصرية، ليــس زمن تحوّل ثوري، بل زمن ردّة رجعية أوصلت المنطقة العربية إلى قعــر انحطاط تاريخي هو الأســوأ في تاريخهــا، إذ انتقلت من العصــر الناصري إلــى العصر الســعودي، ومن عبــد الناصر إلى السادات، بينما دخلت سوريا والعراق، والجزائر بعدهما بسنوات، في عصر الأنظمة المافياوية، وتقلّص المدّ اليساري الذي عقب الهزيمة أمام صعود حركات دينية أصولية حفّزتها الأنظمة لاستخدامها ترياقاً ضد اليسار، وما لبث أن ارتدّ بعضها على من زكّاه. وها إننا نقف أمام مشهد ما كنّا نحسبه ممكناً في أسوأ كوابيسنا، لما وصلت إليه المنطقة من عفن اجتماعي وهوة شاسعة بين فقر لا تني رقعته تتزايد وثروة فاحشــة يبدو إزاءها أثرياء زمن الهزيمة وكأنهم متواضعو الدخل، ومأساة في ســوريا واليمن تخطّت فظاعتها نكبة فلسطين بأشواط، بينما يئنّ المشرق العربي برمّته مضغوطاً مقروصاً بين فكّي كمّاشة لا تنفكّ رقعة همشها في جسد الأمة تتّسع غرباً وشرقاً.
أمام هذا المشــهد، باتت ذكرى الزمن الناصري وكأنها عصرٌ ذهبي وفردوسٌ مفقود، وتحنّ الشــعوب العربية لتلــك الذكرى وتحليها على غرار تحلية الخيال لعشق قديم غابر. طبعاً، هناك من يرون تلك الذكرى بأعين مغايرة، ولاســيما الذين عانوا منها أو ينتســبون إلى فئات اجتماعية أو سياســية عانت منها كميســوري الزمن الملكي أو جماعة الإخوان المسلمين. بيد أن الغالبية الشعبية العظمى تحنّ إلى زمن عبد الناصر وتحلم بمرادف عصري لــه. وتنزع عملية التحلية مع مرور الزمــن إلى إغفال العديديــن للجانب المظلــم والظالم في التجربة الناصرية، ألا وهو ما يتعلّق منها بالدكتاتورية العســكرية والمخابراتية والفساد الملازم لها.
ينجلي هذا الجانــب المظلم في الحوار بين عبد الناصر وميشــيل عفلق في محادثات الوحدة الثلاثية بين مصر وســوريا والعراق في عــام 1963، عندما أشــار عفلق إلى أن عبد الناصــر ورفاقه يريدون الحريــة بمعنى التحــرر من النيــر الأجنبي وليــس بمعنى الحرية السياســية الملازمة للديمقراطية. وقد ردّ عليــه الزعيم المصري على طريقة الفكر الســوفييتي الذي يُقلّل من قيمة الديمقراطية السياسية متحجّجاً بأولويــة «الديمقراطية الاجتماعية» أي العمل في ســبيل المساواة الاقتصادية بين الناس. وطبعاً أثبت التاريخ بما يكفي ويفي أن انعدام الديمقراطية السياســية هو طريق أكيــد إلى إعادة إنتاج الاســتغلال والفروقات الاجتماعية الفاحشــة. أما عفلق، فسريعاً ما نسي تعلّقه بالحرية والديمقراطية للتغطية على الدكتاتوريات التي أقامهــا أنصاره، مبيّنــاً أن حرصه على تلك القيمتــن كان محصوراً بالظروف التي تكون فيها السلطة بغير أيدي جماعته.
بيد أنه لا بدّ لحساب التاريخ أن يتجنّب التحلية المطلقة ويتفادى التبشــيع المطلق، وهما ســيّان في خطئهما. وفي هذا الزمن الرديء الذي بتنا فيه، لا بــدّ لنا أن نحيي ما تصبو إليه الذاكرة الشــعبية، ألا وهــو الإصلاحــات الاجتماعيــة لصالح «قوى الشــعب العامل» وتوفير مجانية التعليم والخدمات الصحّية وتأميم المرافق الحيوية وصون الكرامــة الوطنية في وجه الصهيونية والإمبريالية ورســم سياســة خارجية تقوم على ســيادة الأمة، ونحذّر مــن كل ما يصبّ في الوجه الآخر للتجربة الناصرية وقد ســاهم مســاهمة كبرى في توليد الدكتاتوريــات المافياوية للزمن ما بعــد الناصري. والحقيقة أن جيل «الربيع العربي» بجمعه بين المطالبة بالحرّية ضد الاستبداد السياســي والمطالبة بالعدالة الاجتماعية ضد الاســتغلال والفساد وبالكرامــة الوطنية ضد انبطاح هؤلاء أمام بعض أعداء الأمة وتذيّل أولئك لأعداء آخرين، إنما استخلص من التاريخ الدرس الصحيح.