Al-Quds Al-Arabi

التطبيع مع إسرائيل و«النقاش المجتمعي العميق»

- * كاتب وإعلامي تونسي

«نقاش مجتمعي عميق»... هذا ما رأى عبد الله حمدوك رئيــس الحكومة الســوداني­ة الانتقالية أن موضوع تطبيع علاقات بلاده مع إسرائيل يحتاجه فعــا نظرا لوجــود «إشــكالات كثيرة» في مســألة يتعذر حسمها بارتجال أو خفة.

هــذه الجملة مــن حمدوك، ودونمــا دخول في تعقيدات المشهد السوداني، يمكن وصفها بالجملة المفتاحية التي يفتــرض أنها تختصر كيفية التعامل الأمثل فــي قضية معقدة للغايــة كموضوع التطبيع لأنها مرتبطة بقناعات شــعبية ترسخت لعقود ومن الرعونة محاولة القفز عليها وكأنها لم تكن.

«نقــاش مجتمعي عميق» ســواء قالها حمدوك عــن قناعة أو تهربا من إجابــة واضحة مطلوبة منه فورا، هي مربط الفرس في كل القضايا الكبرى التي تســتدعي اتخاذ قرارات خطيرة ليس من السهل أن يتقبّلهــا الــرأي العام ولا مفر من فتح ورشــة تفكير وطنية بشــأنها. الهدف من وراء ذلــك كله هو البت في هــذه القضايا الكبرى، في هــذا الاتجاه أو ذاك، حتــى لا تتحمّــل وزرَ الحســم منفــردة قيــادةٌ أمام شعبها وأمام التاريخ، لمن يهمه فعلا التاريخ.

هــذا «النقــاش المجتمعــي العميــق» فــي كل المنعطفــا­ت التاريخيــ­ة الكبــرى لعديد الــدول يظل الطريقــة المثلــى، والوحيــدة، لإنضــاج النقاش في قضيــة تهم الجميع ومن حق الجميــع أن يدلي فيها بدلــوه. عــادة يُتوّج هذا المســار باســتفتاء شــعبي عــام أو بتصويــت في مجلــس نواب منتخــب يعبر فعــا عن قــوى المجتمع المختلفــة. ويتمثــل النقاش فــي تنظيم نــدوات ومؤتمرات، ســواء عامة أو بين الأطياف الاجتماعية والمهنية والسياســي­ة المختلفة، مــع وجــود إعلام تعــددي يتيــح المجال لــكل الآراء المختلفــة وحتــى المتناقضــ­ة وبرامــج تلفزيونيــ­ة وإذاعيــة لا تقصــي أي صــوت مهمــا كان أقليــا أو مغاليا، ومنصات الكترونية ومواقع تواصل تتمتع بالحريــة التي تكفل للجميع إطلاق العنان لأفكارهم وآرائهــم. يجري ذلــك كله دونما خــوف من أجهزة أمــن متلصصة على الناس تحصي عليها تغريداتها وتدويناتها بل وأنفاسها.

هــذا «النقاش المجتمعــي العميق» باختصار، لا معنى لــه ولا قيمــة، دون مناخ مــن الحرية يضمنه القانون والقضاء العادل ولا تشــوبه شائبة خوف أو ترهيــب. آخر مثــال ما جرى فــي المملكة المتحدة حين خاضت جميع قواها لأشــهر عديدة في قضية )نغــادر الاتحــاد الأوروبــي أو نظــل داخلــه( كل البريطانيي­ن شــاركوا في ذلك حتــى نضجت الآراء وتجلت الصورة وحسمت في استفتاء شعبي.

وســواء أقــدم الســودان علــى هــذا «النقاش المجتمعــي العميــق» أو أجّلــه أو حــاول العســكر مصادرتــه، بإغــواء خارجي مشــبوه، فــإن ذلك لا يلغي في شــيء وجاهــة اعتماده فعــا حتى يكون القرار نابعا مــن القاعدة من القمة ضمانا للمصلحة العليا للوطن والمسؤولية التاريخية المشتركة.

يكفي الســودان وزر قرار عمر البشــير التنازل عــن نصــف مســاحة بلده حين لم يســتفت شــعبه كاملا في قرار كهذا حيث اقتصر الاستفتاء الوحيد الــذي جــرى فــي ينايــر كانــون الثانــي 2011 على ســكان جنوب الســودان فقــط ليقرروا فيــه ما إذا كانــوا يرغبــون بالبقاء بدولة واحدة مع الســودان أو الانفصال بدولة مســتقلة، تنفيــذًا لبنود اتفاقية الســام الشــامل والتــي وقعــت فــي نيفاشــا بين الحكومــة الســوداني­ة والحركــة الشــعبية لتحرير الســودان في 9 يناير 2005. لم يُستفت الشعب كله في هذه المسألة المتعلقة بمستقبل البلد كله، بل فقط جزء منــه، وكأن الباقين غير معنيــن ببقاء دولتهم موحدة أم لا.

لــو نظرنا إلى ما أقدمــت عليه مصر في «كامب ديفيــد» عــام 1979 أو الأردن فــي اتفاقيــة «وادي عربــة» عام 1994 مع إســرائيل ســنجد أن الراحلين الرئيــس أنــور الســادات والملــك حســن فعــا ما فعــاه دون «حــوار مجتمعي معمــق» ودون عودة في النهاية إلى الشــعب، بالمعنــى الحقيقي للكلمة، ولكن قد يشفع لهما، نســبيا، استرجاعهما لأراض لهمــا كانت محتلة، أو أن وجود تماس دائم فرضته الجغرافيــ­ا أجبرهما على ذلك. أما الحالة الاماراتية والبحرينية، وأية حالة عربية قد تكون على الطريق، فلا شيء يشفع لها على الاطلاق، اللهم تلك المتعلقة

بالخــاص الشــخصي لمن هم في ســدة الحكم، أمــا من يريد افتعــال التبريــرا­ت الواهيــة فبإمكانه أن يجد الكثير طبعا.

فــي الحالتــن الإماراتيـ­ـة والبحرينية جرى ما جــرى وكأنــه اغتصــاب دون حتــى حــق الضحية فــي الصــراخ، بمعنــى أن القــرار اتخذتــه القيادة، و»اتخذتــه» هنــا تعبير مجــازي لا غيــر، غصبا عن الجميــع ودون استشــارته­م بــأي شــكل كان، مع مصــادرة حــق بعضهــم فــي التأفف علــى الأقل، ولا نقــول المعارضــة. وإذا كانــت البحرين، لعوامل داخليــة معروفة، اســتطاعت أن تشــهد شــوارعها بعــض المظاهــرا­ت المعارضة، فإن الامــارات لم تكن فــي وارد أن تســمح بــأي تعبيــر مخالــف فالمقيــم ينتظــره الترحيــل والمواطن الســجن ولــو عبّرا عن رأيهما بألطف طريقة ممكنة.

أكثر من ذلك: لم نشهد هنا أي نقاش مجتمعي، لا عميقــا ولا ســطحيا، بــل رأينا قــرارا يأخذه رجل واحد ويحاول «تلبيســه» لشــعب كامل مع إفساح المجــال فقــط للمطبّلــن الشــتامين للفلســطين­يين والعــرب والمتيّمين بحب إســرائيل ونتنياهو أيضا، حــب ظهر فجأة وكأنه كُبت طويــا. هنا اجتمع معا الاستبداد والسفاهة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom