Al-Quds Al-Arabi

المعادلة الفلسطينية المستعصية

-

تشكل المعادلة الفلسطينية أسّ كل الاحتمالات، بلغة الرياضيين. لا يمكننا أن نتصور حلا عربيا إســرائيلي­ا خارجها، لأن الســام يأتــي من هناك، حيث قضية الاحتلال والشراســة الإســرائي­لية على أشدّها. يمكننا أن نجادل اليوم كثيرا حول العلاقات العربية الإســرائي­لية، فهي في كل الأحوال حقيقة ميدانية، تتسع رقعتها كلما أصبح العــــرب أشــد ضعفا. وهــذه الحقيقة إمــا معلنة أو مضمرة، لكنها معروفة عند القاصي والداني، والمعني بها عربيا لا يرفضها من خلال التســريبا­ت المفبركة في أغلبها، التي يقصد من ورائها اختبار ردة الفعل الشعبية هنا وهناك قبل الإقدام على أي توقيع.

تظل في الشــعوب العربية، على الرغم من سياسات الإحباط والتيئيس، خامـــــة حية وجمرة متقدة حول الحق الفلسطيني. هــذه حقيقــة موضوعية لا يمكــن لأي نظــام التغاضــي عنها، بالخصوص في البلــدان العربيــة التي تملك حركــة اجتماعية ونقابية وبرلمانيــ­ة قوية، وتجربــة نضالية ســابقة. هناك ما لا يقل عن عشــر دول عربية إما لها ســفارات أو مكاتب تجارية، أو استثمارات تحت مســميات مختلفة، في بلدانها. الحقيقة القاسية التي يجب إدراكها هي أن هذه العلاقات موجودة، وهو ما يسميه الغربيون بـ ريال بوليتيك ‪real politique‬ السياسية الواقعية، أي تقبل معطيات الواقع والتعاطي معها، مقابل مكســب ما، حتى ولو كان صغيرا.

الســؤال الأكبر هو ماذا يقدم هذا التقارب الإسرائيلي العربي للشعوب العربية تحديدا باسم الريال بولتيك؟ السلام؟ أي سلام والمنطقة كلها تقــف على برميل من البــارود المدمر. هل خفف من عدوانية إسرائيل ضد الشــعب الفلسطيني، الحجر الأساس لأي سلام؟ فقد اتضح مثلا أن إسرائيل كانت هي المشرف على عسكرة منطقة سيناء، والإشراف على تدريب التيارات المتطرفة لإضعاف الدولة. ولا يخفي الكيان الصهيوني أطماعه بالنســبة للأردن في قضية الضفة الغربية وغور الأردن، التي تعتبر إسرائيل السيطرة عليها أمرا ضروريا لمنع قيام دولة فلسطينية في المستقبل، وتدمير كل البنــى التحتية في غــزة وتحويلها إلى ميــدان حي لتجاربه الأســلحة الفوســفور­ية المتطورة، واحتلال المزيد من الأراضي، وتدمير المســاكن علــى أصحابها بالجرافــا­ت، والانقضاض على القدس وتحويطها بآلاف الســكنات في إطار القدس الكبرى التي تغير المعادلة الســكانية نهائيــا، وضم هضبة الجــولان نهائيا، وتجويع الشــعب الفلسطيني، والمزيد من المســتوطن­ات، والبدء في ضم أجزاء كبيرة من القدس دون الحديث عن الاســتيلا­ء على منابع المياه في المنطقة العربية )نهر الأردن، مزارع شــبعا، بحيرة طبريا...(.

لم تحترم إسرائيل حتى ما وقعت هي عليه في اتفاقيات أوسلو التي كانت وبالا على المقاومة الفلســطين­ية؟ أي ســام؟ الأخطر من ذلك كله، هو إضعاف العرب وتقســيمهم، للتمكن من الإجهاز عليهم... تســميم العلاقات العربيــة ـ العربية، وقتل كل مبادرات الســام الممكنة بما فيها مبادرة الســام العربية التي تم الإعلان عنها في قمة بيروت 2002 أطلقها الملك الســعودي عبد الله بن عبد العزيز بين إسرائيل والفلسطيني­ين بهدف إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليا على حدود 1967 وعودة اللاجئين والانســحا­ب من هضبة الجولان المحتلة، مقابــل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع إســرائيل، وقد نالت وفاقا عربيا عاما. للأسف، حتى هــذه المبادرة، على علاتها، تخلى عنهــا العرب قبل غيرهم. وكيفما كان تفســيرنا للوقائع التاريخية، فقد أصبح العرب اليوم بعيدين جدا عن يد عرفات التي امتدت لإسحاق رابين ولشمعون بيــرس المتردد في مد يده )وهي ذات دلالــة رمزية تظهر أنه يقبل بذلك على مضــض(. أصبحنا اليوم بعيدين أكثر عن تلك الصورة التــي جعلت إيهود باراك يتخلف ليفســح المجال لياســر عرفات للدخول، ثم يتناوشان حول من هو الأكثر لباقة، كما يحدث عادة بين صديقين؟ حتى حل الدولتين لم يعد واردا لا بالنسبة لإسرائيل ولا بالنسبة لأمريكا، ولا حتى بالنســبة للعرب. قبل الفلسطيني بشــبه دولة صغيرة وبكل التمزقات ليمنح لشــعبه أمل السلام، ولكن الوهــم كان كبيرا في ظل كيان متغطرس لا يؤمن إلا بالقوة. قوة الانتفاضة هي التــي جعلته يقبل التحاور، والضعف العربي اليوم هــو الذي جعله ينقض على الفلســطين­يين ومــا تبقى من الضفة الغربية.

ما الــذي حدث طوال هذه المــدة التي جعلت إســرائيل تزداد ضراوة؟ فقد تم تحطيم كل التوازنات العســكرية ليخلو لها الجو نهائيــا، فقد تم تدميــر العراق كدولة، وكقوة عســكرية، وانتهب حربا الخليج المرتبة ترتيبا أمريكيا إسرائيليا بمحو العراق كقوة توازن، لتلحق بها ســوريا التي كان الدور العربي فيها حاسما في ربح معركة تفكيك ســوريا وتمزيق أوصالها. كسر العرب أنفسهم بأنفســهم بتمويل الحروب التي لم تطلق إسرائيل فيها رصاصة واحــدة. وأغرقت مصر في حروب ســيناء البينيــة، والإخوان، لدرجة الانهاك. وليس ســد النهضة إلا الفصل الصغير من مخطط جهنمي قادم يجعل التبعية لإسرائيل مسألة حيوية. ويجري الآن العمل على الحد من دور قناة السويس تجاريا وفتح قنوات أخرى تكون هي البديل. هناك خرائط جديدة يتم ترسيمها بمساعدة اليد العربية نفسها.

ماذا بقي اليوم في المنطقة ما يجعل الحروب متكافئة؟ لا شــيء تقريبــا. العامل البشــري )300 مليون مقابــل 09 ملايين( لا قيمة له، الحاســم في هذه الحروب هو العامل التكنولوجي والطيران الاستهدافي الذي استباح الســماء العربية في ظل غياب أي ردة فعل. وبهذه الاتفاقيات الســرية أو المعلنة، تمّ تعرية فلسطين من أي سند عربي، وأصبح بإمكان الكيان الصهيوني أن يتقدم خطوة أخرى إلى الأمــام لتحقيق حلم إســرائيل الكبــرى، حلم اليمين الدينــي المتطرف، والليكــود الصهيوني: اســتعادة القدس، كل القدس، وإنهاء فكرتي الشــرقية الغربية، لأنها رمزيا تعني الكثير للعرب وللمسلمين الصامتين أمام مشهدية درامية يراد من خلالها إدخال الفلســطين­ي في حالة اليأس الكلي والقبول بأي حل. لكن الذي تتناساه إســرائيل هو أن اليأس يمكن أن تتولد عنه حلول أخرى، أقلها الصراع المســلح، وعودة المقاومة والانتفاضا­ت، على الرغم من أن كل شيء يبدو اليوم مغلقا، لكن سيأتي جيل له وجهة نظره في مســتقبل الوطن المسروق. تخطئ إســرائيل إذ تظن أن شعبها سيعيش في أمان، في ظل آلة القهر والموت ضد الفلسطيني المعني الأول والأخير بقضية الســام. لن تعيش الأجيال القادمة أي ســام، في ظل وضع شــديد الخطورة مثلما هو عليه اليوم، حيث التوازنــا­ت الدولية، على الرغم من اختلالها القطبي، عادت من جديد إلى إفراز تحالفات غير مسبوقة، قد تكون مؤثرة بشكل كبير على الوقائع والأحداث والخرائط. إســرائيل التي تعاني من أزمات بنيوية وهيكليــة واقتصادية، ترى في المــال العربي حلا لبعض معضلاتها.

الســؤال البراغماتي الــذي انطلقنا منه وننتهــي إليه: ماذا اســتفاد العرب من هذه التقاربات المعلنة والمضمرة؟ لا شيء. مع أنه يمكن للعرب، في حالة مثل هذه، ولو من باب المناورة، التوجه نحو الصين، أو روســيا، أو الهند، لكن ذلك كله مسألة أخرى أكثر تعقيدا.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom