Al-Quds Al-Arabi

مشروع نقد الرواية العراقية: قراءة في كتاب لنجم عبدالله كاظم

- ٭ كاتب سوري

ربما كان الهم الأول لمشــروع نجــم عبدالله كاظم في كتابــه «جماليات الرواية العراقية» هو تتبع مســارات وطرق المؤثرات الأجنبية وتجلياتها في الرواية الحديثة المكتوبــة في العــراق. وإذا وضعنا بالذهــن حقيقة أن الوعــي في الروايــة العربية هو وعــي تعريبي وليس إدراكا عروبيا لجوهر القضيــة، لا يمكن في أي حال من الأحوال، عزل ظاهرة الروايــة العربية عن مرجعياتها. وهذا مــا يبرر تداخــل العناصر التقليدية فــي المقاربة مــع عناصر التحديث في الأســاليب والموضوعات )كما ورد في المقدمــة(. ولذلك توجب علــى الرواية العربية تصحيح مســارها وإعــادة النظر بالتقاليــ­د )أو ببناء خبرات الحاضر على وعي مخيلة الماضي( وهذا مؤشــر على مشكلتين.

الأولى، هي ضرورة متابعــة بوصلة الرواية التي لم تعد حكرا علــى الغرب )الغربــي - أو نطاق حضارات الشــمال(. الثانية هي وعي الحضارة الجريحة بذاتها. وعبر عنه ما يســميه كاظم رفض موجات الكتابة عديمة الهوية، التي كانت عبأ على مسيرة الرواية في العراق )وبالضــرور­ة في بقية بلدان الشــرق الأوســط وآسيا(.

وهذا يقودنا لنقطة تالية لوح بها كاظم في مستهل كتابه، وهي زيادة مساحة الأعمال الواقعيــة )الاهتمــام بأصــول كتابة الرواية ورفد جذورها المســتورد­ة بهمّ محلي، كما هو حال «النخلة والجيــران» لغائــب طعمة فرمان و«الرجــع البعيد» لفــؤاد التكرلــي على ســبيل الذكــر لا الحصر(. طبعا بدون إغفال هموم التجديد، كما تعكسها طموحات روايــة الأصوات )خمســة أصوات لفرمان(. ولا يفوتني هنا الإشارة إلى مشكلة الروايات الأوروبية المفتوحة. وهو ما تفعله الرواية العراقيــة المتأوربة )حينما تعكس واقعها الفني وتجتهد لتســويقه بأشــكال تراثية(. وربما من أحدث الأمثلة على ذلك مشــروع برهان الخطيب، الذي يراهن على ظاهــرة المقامة والإيقــاع، أو مخيلــة الصوت، أو لنقل الذاكرة الإحيائية. وهذا يفســر كلام نجم كاظم عن اشتراك الموضوعات في الإلغاء والاحتفاظ.

يبدأ كاظــم كتابه من نقطــة النهايــة، ويترك مهمة استنتاج التعريفات على عاتق القارئ. حتى إنه يقفز من فوق أهم مشــكلة في بحثه وهي: ما هي شروط الرواية التي نســميها عراقية؟ فالعراق ليس بلــد التناقضات

فقط، لكنه أيضا بلد المتحولات السياســية. ونطاقه أو مداه المجدي مرّ بعــدة أطوار. وهناك عدة نقاط انفصال وارتباط، منها مشكلة اليهود العراقيين، ومثلهم العراقي الإيراني، هذا غير جدلية شمال - جنوب. والمقصود بها تداخل الماهيات بين الكويت والعراق وكردستان. وأعتقد أن هذه المشكلة تمثل واحدا من أهم التحديات في الأدب العراقي، فهو بلد معروف بالانقلاب على المفاهيم. ومثلما بدأ القلق على معنى الشــعر العربي من العراق، وانتقل تعريفه من البنية الفنية إلى الحساســية الفنية، تعاني الرواية من الأعراض نفســها. فالقصة الجديدة ظهرت أول ما ظهرت في العراق )ومثالها يوسف الصائغ مؤلف «المســافة» وهيتحتنوع فنــي جد يد

يتراوح بــن المسرح والقصــة الطويلــةو­الروايــة القصيــرة(. وأعقبتهــا النوفيلا، التي كتبها قصي الشــيخ عســكر، وقدم لنا منها ما لا يقل عــن 12 عملا )كل نوفيلا تتراوح بين قصة طويلــة بحجم قصص فلوبير وبلزاك( ورواية قصيرة )بحجم روايات مارغريت دوراس(. وإن لم تكن هذه المســائل ذات أهمية تذكر بالتقويم الأخير، غير أنها لا تســاعدنا على تأكيد ماذا يعنيه بدفاعه المستميت عن عدد الروايات العراقية. فقــد بنى على الكم عدة نتائج، ومنها بدأ في مناقشة تحويل المجتمع من أبوي بطريركي عشائري لمجتمع مدني متجانــس، يتبنى مفهوم القوة العاملــة ووحدات الإنتــاج بغض النظــر عن الجنس والطبقة. تضــاف لذلك مشــكلة تالية في الحــدود، وهي ماذا يقصد كاظم بكلمة واقع محلي؟ وتوجد أكثر من إشــارة يدافع بها عن محلية سياق الرواية العراقية. بمعنى أنه يجــد في إضفاء الطابع المحلي جزءا من مكون أساســي له علاقة بحامل الرواية )وهو أبطالها أو الشــخصيات( والفضاء االموضوعي الذي ينتمون لــه وهو )الهوية(. وإذا شــئنا أن نختصر نقول: إن كاظم يولي أهمية فائقة لمشــكلة الماهية في الرواية، ويعتقد أنهــا تمثيل للواقع. غير أن هــذه الاصطلاحات أيضا تتحلــى بقدر كبير من المطاطية والإبهام. هل الواقع المحلي هو ما نراه بأعيننا فقط )الواقع الطبيعي - المنظــور(؟ أم أنــه كل شــيء له علاقة بموضع الشخصيات من واقعها الاجتماعي؟ وهذا يدفعنــا للتفكير بكافكا. هــل كان كاتبا فضائيا )مثل الموظف الفضائــي - الوهمي الذي ضــرب اقتصــاد العــراق وألحق به أضــرارا فادحة(؟ أم أنــه نموذج لعصر بكل شروطه المشحونة والمحتقنة؟ وفي ما أرى إن التصوير غير الواقعي للواقع المحلي مســألة معروفة في الرواية العراقية وغيرها. لكن في المقابل التصوير الرمزي لواقع افتراضي يكون أحيانا وســيلة ناجعة لتشخيص أزمات أي بيئة محلية. وفي الذهن رواية: «ليلى والحاج» لمحمد الأحمد، التي لا تشــخصن التجريدات المحلية فقط، بل إنها تسعى لدمج الصور بالأفكار، لتكون أفكارا مجسدة، منظورة ومسموعة. وعلى ما أفترض إنه كان من المفيد، لو تناول كاظم هذه المعضلة الفنية بمقدمته، مثلما تناول بشــكل خفيف، لكن معلم وضروري، عدة إشكالات منها المعنى الاجتماعــ­ي للتقاليد، وظاهــرة تعاقب الأجيال، ودور الواقع الداخلي في بناء فضاء الرواية، إلخ. لكــن يبدو أن كاظــم أولى عنايته لمصطلــح الرواية النســائية. وحددها بكل رواية طويلة أو قصيرة كتبتها امرأة داخل العــراق أو خارجه، واعتبر أن نقطة البداية كانت مع «ليلة الحياة» لحورية هاشــم نوري الصادرة عام 1950 باســم مســتعار هو )فتاة بغداد(. لكنه عقد لواء الريادة لســميرة المانع، واستعار من نازك الملائكة شــروط الريادة وهي: أن لا تكتفي بالسبق التاريخي، وأن تكــون مؤثرة، وأنها فتحت البــاب لنصوص تالية تحذو حذوها.. بالمقابل نظر إلى «زهرة الأنبياء» لسالمة صالح )صدرت عــام 1994( على أنها منعطف واضح في الكتابة النسائية.

ولا يختلــف كاظــم عن بقية النقــاد العرب، ويعتقد أن الرواية هي فــن المدينة. والحق يقــال احتلت بغداد معظــم مســاحة الروايــة العراقية، وحتــى الروايات المهاجــرة، ومنها أعمال غالب هلســا ونعمات البحيري )وهي مصرية( كانت لا ترى مــن العراق غير عاصمته. وفــي الذهن «وجــوه بغــداد الثلاثة» لهلســا وبعدها «أشجار قليلة عند المنحنى» للبحيري. لكن أجواء الرعب التي رســمها الكاتبان يمكن تعميمهــا على عموم أرجاء العراق. بمعنى أن بغداد كانت عينا ســحرية أو عدســة مقربة، تنظر منها لكل ما يجري فــي هذا البلد، وهو يمرّ بلحظة تحول حاسم من تاريخه. وينتبه نجم كاظم لذلك في واحــدة من لمحاته الذكية حين يقــول: إن التحولات لحقت بالنماذج والأحوال، وغلبت عليها السلبية، أو أن موقف الرواية منها كان سلبيا.

ويســأل نفســه لماذا كل هذا الضعــف وخيبة الأمل؟ ثم يجيب نفســه أيضا بقـــــوله: لأن الروائي جزء من مجتمعــه والمجتمع العراقي لــم يعاصر غيــر النكبات والمآســي. وتترتب على ذلك مشــكلة لها علاقة بالنضج الفنــي، وهــي أن يفصــل الروائــي ذاتــه عــن ذوات شــخصياته. ويقدم كاظم مثالا مهما على ذلك من خلال دستويفســك­ي، الذي لم يكــن يفرض نفســه على لغة مواقف شــخصياته، وبلغة باختين )والــكلام لكاظم( يعقله على أساس أنه أنا غيري.

ويلاحظ قفزة نوعية في أسلوب تقديم الشخصيات، ويصنــف أســلوب ظهورهــا علــى مســرح الأحداث بواحدة من طريقتين: مباشــرة إخبارية، وغير مباشرة اســتبطاني­ة يتقمص بها الروائي شــخصياته. أما آخر نقطة اهتم بها فتجدها في طريقة شرح وتفسير الحوار. وهو يقســم الحوارات لنوعين: بالفصحــى وبالعامية. ويتابــع ظهور كل شــكل على حدة، ويؤكــد أن الحوار منوط بالشــخصية المتكلمة، وأنه أداة تساعد على رسم الشــخصية ومعناها. ولا ينسى الإشارة لتنويع الحوار في الروايــة الواحدة وأحيانا بــن الروايات. فهو تارة بالعامية وتارة بالفصحى. بتعبير آخر كان الخلاف بين الشخصيات واللحظات السردية وأيضا بين الروايات. بمعنــى أن الظاهرة الألســنية كانت عابرة للشــرائح الاجتماعية وللنصوص. وهي تعبر ولا شك عن قلق فني لا تخلو منه رواية عربية. فالحوار أساسا شيء والكلام شيء آخر. وببســاطة إن الحوار قانون فني لكن الكلام نشاط ألسني.

٭ صدر الكتاب عن دار شهريار ـ العراق ـ 2018.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom