Al-Quds Al-Arabi

هكذا كان أبي الخالد فيودور دستويفسكي

-

لوبوف، أو لوبا، ابنة فيودور دستويفســك­ي أحد الكبار في تاريخ فــن الرواية، لم تتمكن مــن أن ترث الكثير من موهبتــه. الكتابات التي نُشرت لها لم تلق ترحيبا كافيا من القراء والنقاد على السواء. كتابها عن أبيها كان على الأرجح أفضل أعمالها.

ســاعد في ذلك حبها للأدب ومعرفتها لأبيها وعيشها في كنفه. لم تكن في حاجة إلى أن تقرأ كثيرا إذن، فالســيرة التــي أنجزتهــا كانــت مادتهــا حاضــرة وفــي المتناول.

من المؤكد أنها اطّلعت على كل ما كتب دسويفسكي )حسب ما تسمّيه، على الدوام( وقد مكّنها ذلــك مــن إرجــاع شــخصيات رواياتــه إلى أشــخاص كان قد عرفهم وعايشهم. من بين هؤلاء جده وأبــوه وعمّاته وأصدقاؤه وآخــرون كثيــرون حضــروا، أو حضــرت أطيــاف لهــم، فــي «الأخوة كارامازوف» و«المقامر» و«يوميــات مــن بيــت الموتــى» و«المراهــق» تبعــا لمــا تناولتــه لوبــوف. كمــا أنها لا بــد قرأت الســير الأخرى التي كُتبت عنه، والمقــالا­ت التــي تناولــت أدبه. أما أكثــر ما يظهر مــن اهتمامها الثقافــي فمتابعتهــ­ا لأصــل العائلــة، كما أصــل متفرعاتها، وكذلــك أصــل الشــخصيات الأدبيــة التي زامنــــــ­ت أباهـــــا مــــــثل غوغــــــو­ل )الــذي كان ملهمــا أدبيــا لأبيهــا فــي مطلــع حياتــه( وتولســــت­وي وتورجينيف، إلخ.

مــن ذلك مثــا أنها تبــدأ كتابها بمعلومــة مفاجئة: «أبــي ليس من أصل روســي». أمه كانت روســية أما أبوه فكان من نســب ليتواني. لكن أنســابا أخــرى اجتمعت في تكوينــه، منها عرقــي ومنها ثقافي )وغالبا ما يندمج الاثنان معا حيث تكون للبلدان خصائصها الثقافية الأصليــة( ومنها مــا أضيف إليه في وقــت لاحق، بعد ســجنه أربعة أعوام في سيبيريا. الصفحات حافلة برسم صور عرقية لمن تناولتهم السيرة في سياقها. فعلى الدوام نقرأ عن تداخل الأصول النورماندي­ة والبولنديـ­ـة والأوكراني­ــة في تكوين الأشــخاص الــروس. ذلك الميل لتعيــن الأصــول كان، على الأغلب، شــائعا فــي ذلك الزمــن، وليس عائدا فقــط إلى شــغف لوبوف به. ففــي صفحــات الســيرة كثيــرا ما نقرأ ذلك التباهــي والاحتقار ماثلة فــي الحــوارات التي كانــت تجري بــن كتّاب ذلك الزمن. هي نفســها، الكاتبــة، لا تتحــرج مــن رد مثلبــة شخص ما إلى تواضع أصله.

ربمــا يعــود ذلــك التنــازع بــن أعــراق البلــدان المؤثــرة وثقافاتها إلــى كــون روســيا، كمــا تبــدو من الكتاب، مزعزعة الهوية الاجتماعية والثقافية. كانت النخبة تقرأ الآداب الوافدة مــن بلدان أوروبا، وبلغاتها الأصليــة. دستويفســك­ي نفســه كان يجيــد لغتــن همــا الفرنســية والألمانيـ­ـة. ففي ما خصّ الأدب مثلا كان «جــان فالجــــــ­ان» بطل رواية «البؤســاء» لفيكتور هوغو، حاضرا كنمـــــوذ­ج محتذى. أما التشيللرية فكانت مولّدة للخيــالات العاطفية، لا للأدبــاء وحدهــم، بــل للطــاب وللمتعلّمين عموما.

وقــد فُتح لدستويفســ­كي طريق للخــروج مــن أســر تلــك الهيمنــة الخارجيــة، وذلــك بنتيجــة عيشــه مــع الفلاحــن، الســجناء مثلــه، فــي ســيبيريا. هنــاك أدرك أصالة المعــدن الســافي وطيبــة بشــره وقدرتهــم علــى الصبــر والتحمل. ســنوات ســيبيريا قلبت وعيه رأســا على عقب، وقد ظلّ حاملا شعلة الســافية متوقــدا بالرغبة فــي أن ينقل إلــى الإنتليجنس­ــيا «الفكرة الروســية الكبرى» تلــك التي «لا يعــرف بوجودها المجتمع الروســي الأعمى والأصــم». كانت تلك عقيدة دوستويفســ­كي الدائمة، المعززة

بالأورذوكس­ــية، التــي كمــا تكتــب ابنته، ينبغي أن يُعمل على إحيائها وإعادة كشف جوهرها الذي أُخمد، أو طُمس، من أيام ما سقطت بيزنطة.

روســيا وليــس أوروبا، التي حــن ينظر إلى أحوالهــا نظرة ثاقبة، «ســيدهش الروس لما وصلت إليه من شيخوخة» (هكذا بما يسبق ما قاله جــورج بوش عن القارة العجوز(. وأيضا روســيا وليس «عصبة الأمم» ولا «نشــيد الأممية» الذي لا يفتأ ينشــده الطلاب والشبان في بطرســبرغ وسواها. حســب ســيرته هذه، كان دستويفسكي ساعيا إلى اكتشــاف الأصــول، القومية والدينية، وإحيائهــا، رافضا لكل ما تدعو إليه الأفكار الثورية لزمانه.

وفــي تكوينه الشــخصي كان محافظا أيضا. تــروي لوبوف كيف تأخر نموّه أو نضجه في ما يتعلق بالعلاقة بالنســاء. لم يشــعر بميل نحوهــن حتى بلغ ســنّ الثالثــة والعشــرين، أو الرابعة والعشــرين. حبيبتــه الأولى هجرته وهو فــي أوج تعلّقه بها. زوجتــه الأولى )تلك التي تكنيها الكاتبة بالزنجية البيضاء، وذلك للحطّ من شأنها( كانت تخونه علــى الدوام وهي، بعــد وفاتها، تركت له ابنهــا من زواج أول ليعيلــه متبنيا إيــاه )وهذا أيضا نعتته الكاتبة بســليل الدم الزنجي(. وهو كان في عمر متأخــر حين تزوج من أنجبت أولاده، وكان يزيدها عمرا بنحو عشرين سنة.

دستويفســك­ي رجل تقليدي محافظ يتبع في عمله وأخلاقه نظاما صارما. هكذا رأته لوبوف دستويفســك­ايا ابنتــه، رجلا محبا لعائلته ولذويــه ومخلصــا لهم، حتــى حين يتعلق ذلــك بمتبنّاه ابــن الزوجة الخائنة، رجلا بلا نزوات ولا هفوات، حيث لم تورد عن تعلّقه بالقمار، الذي لازمــــــ­ه طيـــلة حيــــاته كأزمـــــة متواصلة، إلا سطورا قليلة لا تتعدى الســطور الســتّة. كما أنهــا وقفت مؤيدة وجهــة نظره في كل خلاف، ســواء مع معاصريه مــن الكتاب والناشــري­ن، أو مع أخواته اللواتي، في السطور الأخيرة من الكتاب، رحــــن يبتــــزّنه للاستيلاء علــى الإرث الذي تركته الأخت الكبرى، وكل ذلك جرى، أو كُتب، بلغة العائلات ومكائدها.

* «أبي فيودور دستويفسكي» للوبوف فيودوروفنا دستويفسكس صــدرت طبعته الأولى من مئة عــام 1920، باللغة الألمانية، حيث ترجم لاحقا إلى لغات بينها الروســية. نقله إلــى العربية أنور محمد إبراهيم وقــدّم له بوريس تيخوميروف. صدر عن «الدار المصرية اللبنانية» في 358 صفحة- سنة 2020.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom