Al-Quds Al-Arabi

لذة السعادة

- ٭ كاتب من المغرب

الحياة الســعيدة حياة لذيذة، ذلك أن الســعادة مرتبطة باللذة، فلا ســعادة بدون الاســتمتا­ع بلذات الأكل والشــراب والجماع وتكديس الأموال، حتى أن اللذات تختصر في هذا الفهم البسيط: «فإن الصبيان والحيوانــ­ات تطلب اللذات» كمــا يطلبها العامة ولو كانت ضارة ويعقبهــا الحزن، لكن هل هــذه اللذات التي تشــغل عن العقل رديئة عنــد الحكماء؟ وكيف اســتطاعوا أن يطلبوا تلك اللذات التي تخلو من الألم مثل لذة العقل؟ وهل اللذات الحسية ليست لذات، بل تظهر كذلك لغير العقلاء؟

ما دام أن بعض اللذات خيــر وأن معظمها رديء، فإن النظر في اللذة والحزن، واللذة والفرح فلصاحب الفلســفة المدنية، أما الرجل الشــرير فيشــبه مدينة تستخدم قوانينها، لكن هذه القوانين عند الاستعمال لا تســاوي شــيئا، فهو يجهل أن الرداءة داء متصل مثل داء الســل ويصدق عليه قــول الحكيم: «إن أهل ميليسوس ليس هم بجهال وإنما يفعلون فعل الجهال لقلــة التجربة». وبمــا أن القيــاس الصحيح للذات ينبغي أن يكون هو العقل، فإن الذين انهارت عقولهم يستعملون اللذات الجسمية بالإفراط، ولا ينتظرون النطــق لأنهم يميلــون إلى الحزن والألم، فالأشــياء اللذيذة ضــارة بالصحــة. لأنه إذا كانــت المعرفة لا تتميز إلا بضدها، أي الجهل، فــإن تفكيك اللذة ككون محســوس، سيفســح المجال أمامنا لمعرفة قيمة لذة العقل في مقاومة اللذات الحســية، وكل ذلك من أجل وضع تلــك الصداقة المبنيــة على اللذات الحســية

موضوع تساؤل، لأن ضررها لا يظهر، إلا عندما يكون أصحابها دولة لا تحركهم ســوى مهنة الطبخ والعطر والنبيــذ، باعتبارها صانعة للذات، هكذا يختفي فيهم العقل، وكما قال الحكيم ساخرا: «كانت المدينة ترجوه، وهي التي لا تهتم بالقوانين، لها قوانين حكيمة لكنها لا تستخدمها، منتظرة هذا الرئيس الرديء».

مهما تكن اللذة الحكيمة مفرحة للكينونة وطاردة للأحزان، فإن العفيف يهرب من اللذة، والعاقل يطلب اللذة التي تخلو من الألــم، فللعفيف لذات أيضا، كما أن للعاقل لــذات، وبعبارة أخــرى فمضطر أن تكون اللذة خيرا ما، وأن الحياة السعيدة لذيذة بطبيعتها، ولا تكون رديئة إلا عند الأشــقياء: «إذ الســعادة مع الأفعال الكاملة، ولهذا يحتاج السعيد أيضا إلى اللذة في الجسم، التي من خارج والتي للنفس، لكيلا تكون أفعاله ممتنعة بهذه» لأن من هو ســعيد سيختار تلك اللذات الخيرة، ويترك تلك الرديئة. ينبغي للإنســان العاقل أن يتمتــع باللذات الجميلة، كلذة الموســيقى والقــراءة والتأمل والنزهة، ذلك أن ضد الشــر خير: «ولعل الصواب هو أن اللذات الضرورية خير، بمعنى أن ما ليس شــرا فهو خير، أو هي خيــر إلى أن ينتهي الخير» بمعنى أن الاعتدال في اســتعمال اللذة أجمل من الإفراط.

وفساد الإنســان إنما هو بطلبه الإفراط: «لا بطلبه الأشــياء المضطرة )الضرورية( فإن الجميع يحبون تذوق ألــوان الطبيخ والخمور والجمــاع، لكن ليس على ما ينبغــي» ولعل فوكو صاغ هذه الحكمة صياغة جميلة، حيث قال في كتابه «استعمال اللذات»: الحق في اللــذة دون الإفراط في الاســتعما­ل، مستشــهدا بأبوقــراط الذي يقول: الحمية هــي فن «الحياة» لأن

ما كان يهم فوكو هو اســتيطيقا اللــذة، من خلال فن الاســتعما­ل، ذلك أن الاســتعما­ل غير الجيد يقود إلى نســيان الذات، لأن: «النفــس، كما يقول ســقراط، تعيش صراعا بــن تلك اللذات التي تجعلها تنســى ذاتها، وتلك التي تذكرها بحقيقتها» فحسب محاورة فيــدار: إن النفس تأتي إلى هــذا العالم وهي ممتلئة بالمعرفة، عالمة وفيلسوفة، بيد أن إقامتها الطويلة في اللذة ترغمها على نسيان كل ما تعلمته في عالم المثل، وتنتقل من المعرفة إلى الجهل، بواسطة النسيان، ومن الجهل إلى المعرفة من خلال التذكر.

لم يتردد فوكو فــي الاعتراف بأن ميتافيزيقا اللذة غامضة علــى ميتافيزيقـ­ـا الوجود فــي نظرية المثل الأفلاطوني­ــة، لأن تحرير مجموعة من الفلاســفة من الكهــف، وترك اللذة تنام في غســق الظــام، معناه احتــراق اللذة، مقابــل وضع الحقيقــة مكانها، فلذة الحقيقــة أعظم مــن اللذة الحســية. هكــذا توجهت الفلسفة الأفلاطوني­ة إلى قمع اللذات واحتقار الجسد، بل تعظيم النفس، وجعلها تتذكر ما كانت تعرفه، لكن كيف انتقل إخضاع اللذة من الفلسفة إلى هيرمونيطقا الأخــاق؟ وما الــذي جعل الأخلاق تتجــه نحو قمع اللــذة؟ فتاريخ المتع كتجربة وجودية، هو الســر في استمرار الحياة على الأرض، فالنوع الإنساني حافظ على وجــوده باللذة: «النفس تبرهــن على وجودها وقدرتها على التهــام اللذة، بموازاة مــع حركتها في اتجاه الإحساس بالانتصار» ذلك أن حقيقة اللذة هي الانتصار حســب فوكو، لأنها تحقق ســعادتها عندما تتخلص من الإحباط، بيد أن اللذة تقتل إذا استعملت بشكل مفرط.

من الأجود أن يكون الإنســان فــي حالة جيدة من

أن يكون في ســبيل البرء، لأنه كلمــا كان معتدلا في اســتعمال تلك اللذات الحســية، حافظ على نفســه، ولذلك يتساءل أرســطو قائلا: لماذا الإنسان الفاضل يحتاج إلــى اللذة إذا كانت اللذة ليســت خيرا؟ ربما لأنها تدفع الحــزن: «ولما كانت اللذة بــرءا من إفراط الحزن، طلبــوا اللــذات البريئة» لكن ليــس على ما ينبغي، بمعنى اللذة مع فن الحمية.

وبالجملة فإن لذة التعقل هــي أعظم اللذات، لأنها تكــون بالطبع وغير ضارة، ولا يأتــي منها إلا الخير، ذلك أن اللذة في الســكون أكثر منهــا في الحركة، وما بالذات أفضل ممــا بالعرض، فالنظر والســمع علاج للنفس، لكن لأصحاب المزاج المعتــدل: «أما الذين هم بالطبيعة ذو مــزاج حاد، فإنهم في حاجة مســتمرة إلى علاج، لأن جســمهم يلذع لذعا كثيرا وهم أبدا في شهوة شديدة.. ولهذه العلة يكون ذو المزاج الحاد غير عفيف». والعاقل هــو العفيف، وهو الفاضل، والخير، والمخلص للصداقة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom