Al-Quds Al-Arabi

منطقة الصفر

- ٭ كاتب مصري

ذُكــر في المخطوط أن العثور على عالم آثار مقتولا ومشــوه الوجه، لــم يكن الداعي لحالة الفزع التي أصابت فريق التنقيب، وأن تســرب الخوف إليهم واستغراقهم في اليأس، نتج عن زيادة احتمال، استحالة الوصول إلى كشف عظيم، يطل من خلف مخلفات العصور المندثرة في حفريات تلك المنطقة، فزادوا من حدة التوغــل والإمعان في التنقيب، الترتيب، إعادة الترتيب للقطع المكتشــفة، ومحاولات خلق معنى لرموزها، وكشف تاريخ من عاشوا هناك. ولم يدركوا وقتها أن ذلك سيكون بداية لكل ما سيقال لاحقا عن هذه المنطقة.

فى ســيرهم المتواترة، أجمع المحققون على أن المخطوط، لم يحــدد معالم المنطقة بوضوح، بقدر ما أدى إلى التشــوش، والحيرة، المبالغة في خطورة المــآلات، ووصلها بمكامن الفزع في الإنســان، فامتدت إلى كل باحث مرّ من هنا على مدار التاريخ، فجفل كثيرون، وتردد البعض، وتقدم آخرون إليها بخطى مفقودة الأثــر. فمنطقة الصفر كما أطلق عليها ـ والروايات متعددة حول جذور هذا الاســم وســببه - كانت مــن أوعر المناطق ألغــازا في تاريــخ العالم القديم والحديــث، وخطّوا أيضا أن من يدخلها لا يخرج منها أبــدا، أو لا يخرج كما كان أبدا، ويتوقف ذلك على درجة تصميم الباحث، في تعقب معانى نقوش الجدران، أو مخلفات الحفريات من العصور المتتابعة. فذُكر أن الرموز المنقوشــة علــى جدران المعبد الوحيد القائم في وســط المنطقة، لم يتم العثور على معنى لها، أو مقابل في اللغات المختلفة، وحتى أكبر علماء الآثار، الذي وجد ميتا بجانب جدار المعبد مشــوه الوجــه، ورد أنه ما من تشوه إلا وخلفه هذه المنطقة.

يقــال إن طبقات الحفريات لم تشــر إلى أي آثــار تكونت بمرور الزمن، أو التحام بينها ينبه إلى تنوع العصور التي مرت بها المنطقة، وكأنها خُلقت فــي لحظة زمنية واحدة، ومســتمرة إلى الأبد. انكب المنقبون على الحفر، النفاذ لما تحت ســطح هذه الطبقات بســرعة، شهيتهم للكشــف، وشراســة التنقيب، أودت بهم إلى الأربع عشرة قطعــة أثريــة، كل قطعة تأخذ شــكلا مختلفا، بتجويــف منحوت، يدل علــى صلة بقطعة أخــرى، وعلى كل قطعة رموز منقوشــة في تراص متواصــل متدفق ولامع، لم يُقطع بعــد بمعناها. ثلاثة أعوام مســتمرة، وفريق البحث، ينغمس في توفيق كل قطعة مع الأخرى، ربط القطع في شــكل متكامل، فكانت جهود البحث، تندفع، تتدفق، تتسارع، باحتمال وجود تفســير ما تحمله خلفها، وعندما اجتمعت الأربع عشــرة قطعة بجوار بعضها بعضا في تشابك مذهل، لم تُثلج صدروهم، وزادت حدة الأســئلة في عيونهم، فوقف مدير المشــروع ووجه كلامه إليهم :

ـ كل قطعة تحتاج إلــى ترجمة دقيقة، فهــذه المرحلة الأولى، في تشــكيل تفســير كامل للقطع مجتمعة، وربما يظهر شيء آخر يغير طريقنا تماما.

شعر الباحثون بالتعب والإرهاق، غشــاهم الليل، وشكّلت وجوههم ثلاثة أعوام من الحفر والبحــث المضنى، وتجميع القطع وإعادة تجميعها لاحتمالات تفســير ما، آلاف المرات. واليوم وكأننــا نبدأ من جديد، بمزيد من الغبار والنأي، وبارتبــاط مصمت بتتابع الفصول، وبدوران متواصــل معها، أصبحنا مثــل حفريات اكتشــافنا، كل واحد منا يحمل طبقــات من الأحداث وتقلبات الصحــراء، المجد المنتظر، الحصول على كشــف عظيم يغير مســار التاريخ، تضُمنا الحساســية المفرطة، الضنى، والجوع للكشف المنتظر، إذا شــعر أحد منا بشيء أو خطرت له فكرة ما، نتداعى جمعيا بالنقاش وطرح مئات الإســئلة، للحصول على إجابة، أمل ما، فطبقات اليأس تتراكم على وجوهنا متشــابهة، تذهب، تعود، وتبقى آثارها كاحتمال يمكن أن يتحقق، نحن بندول متأرجح بين جهتين، يدق ولا يعبر سوى عن مرور الزمن، لا يمسك بشيء، ويفضي إلى دوران مســتمر، هل يوجد من يبحث ويلف في ســاقية أبدية؟ دامــت نظراتهم إلى القطع المجمعة، تموج في شريط دائم من البداية إلى هذه اللحظة، وأفق ممتد إلى ما لا نهاية، تصلبوا أمامها، بمشــاعر مُضطَرِمة، وتعلقت قلوبهم بأمل، ربما يأتي قريبا، رفع كبيرهم عينيه لأعلى، وأعادها للقطع، ثم وجهها إليهم، في صوت جهوري يعيد تدفق الحياة في كل فريقه: إلى المعنى يا أصدقاء الصحراء، فنحن نريد أن نســحق تآكل الجحيم داخل صدورنا بالوصول لسر هذا الكشف العظيم.

رُوي لاحقا أن الباحثين الســبعة، عثر عليهم مشــوهين، والقطع الأثريــة مفككة حولهم، لم يتم التعرف على أي منهم، فلم تكن ثمة جثة من الجثث فيها ما يشــي بهويتها، فبخلاف الوجه المشــوه، والرأس الحليق، كانــت أيضا الأيدي والأرجــل، حتى الأعضاء التناســلي­ة أصابها التشــويه، وصل التحقيق إلى طريق مســدود، أخذ المحققون تفويضا من ذويهم، ودُفنوا أمام المعبد تخليدا لذكراهم. وضعوا اســم كل باحث على شــاهد من الشــواهد كرمز لهم وللزمن، كتبوا سيرة كل منهم من ميلاده حتى ذهابه، سردوا رحلة تنقيبهم على لوح كبير أمام الشاهد الأوســط. وتَذْكُر آخر فقرة فيه، أن مقتلهم كان في فجر اليوم الذي حددوه لإطلاق الكشــف، وفك رمــوزه للعالم أجمع، ولكن الإبحاث التي تمت لاحقا، لم تعثر على أي مخطوطات، أو آثار للباحثين تؤيد تلــك الفقرة، حتى الصحف التي صدرت في صباح 1801 كان يســتحوذ عليها الصخب، وصور الجنازة، ولكنها لم تتجاوز ذلك ســوى بالإشارة إلى شيء غامض مستمر. بعدها بوقت قليل، حُملت القطع المكتشفة إلى متحف التاريخ القديم في المدينة، ولكنها لم تدم ليلة واحدة، قيل إنها سُرقت، وانتفضت الشرطة، والمدينة بأكملها، ولكنهم في النهاية وجدوها في منطقة المعبد، وأثناء سير تحقيق النيابة، وبحدس عالم قرر ألا يكمل عمله، قال لهم رئيس التحقيق: «من الأفضل أن تبقى القطع كما هي في منطقة المعبد، بدون إبداء أي تفســير لذلك، فجريمة الســرقة لم تتحقق» ورحل من أمامهم وعيونهم تلاحقه في جلال ورهبة، وقيل لاحقا إنه لم يشاهد في المدينة بعدها، وبقيت القطع كما هي ولم يتم نقلها إلى أي مكان آخر.

مرّ زمان على تلك الحادثة كما يذكر الكُتّاب، ولكن بقي المكان كما هو، والقطع الأربع عشــرة باقية برونقها وغموضها، بُذلت كل الجهود للســيطرة على القطع علــى مدار أجيال متعاقبة، ولكــن بعد التيقن من إنســداد الأفق، تكرار حوادث التشــوه، الغيــاب، تم الاحتفاظ بها في أماكنها، وتمت إحاطة المنطقة بســور ضخم، وأصدر رئيس الدولة قرارا بمنع البحث أو الحفر فيها، وأُلحق القرار بنص لرئاســة الجامعات بأن تلك المنطقة خارج نطاق البحث والدراسة، للمخاطر المرتبطة بها، وأوصدت بالأبواب الحديدية، خوفا من مغامرات أخرى أو جهل لص.

بــرودة الأحداث بمرور الزمــن جعلت منطقــة الصفر من أفضل المزارات في العالــم، وظل الجميع، يقف أمام الرمــوز المكتوبة على القطــع، وعلى جدران المعبد، يتعجبون مــن جمالها، وغموضها، أو من كتبها؟ ولماذا؟ وعندما يبدأ المرشد في شرح طبيعة المنطقة يصاب السائلون بمبرر خلف استغلاق هذه الرموز، ويسير بهم في جنبات المكان، ويشــرح عن شــيء له معنى ولكنه غائب، وخوف طفيف، يغشــى الجميع، تزداد حدته مــع الاقتراب من شــواهد الباحثين، يتعاقب الكل على الرحيل، ويزايلهم المجهول عن هذه المنطقة.

يحذر الرحالة العابرون في كتبهم «لا تنتظروا أي شــيء في هذه المنطقة، والأفضل ألا تمروا عليها، فإن من يمر عليها سيصاب بدائها، ومن يصاب بدائها سيحيا باحثا مشــوها، ولن يرسو مرة أخرى». في المجلد الثاني للرحالة والتر أدموند ذكر، «أن شســاعة الغموض في هذه المنطقة أكبــر من أن يحيط بها أحد، بــل ربما تكون النهاية الحقيقية لمن يسعى ورائها، حتى حفرياتها التي تمت إعادة ترتيبها آلاف المرات واحتمالات التفسيرات المتعددة على مرّ السنين، لم تؤد إلا إلى فراغ مقيم».

وفيما نقل بخصوص إطلاق اســم منطقة الصفر عليها، ذكر عالم الآثار ميلــر أراكون في مذكراتــه المترجمة مؤخرا إلــى لغات عدة، «أن نتيجة توالي الباحثــن والعلماء إلى هذه المنطقة، ومحاولاتهم الدؤوبة لفك رموزها، واســتعصاء الوصول إلى تفســير، سيخيب أمل أى عالم، فالمنطقة ستســتمر كالغيب ونهاية أي شــيء». وتعقيبا على ذلك ذكر بيت شعر لأحد الشعراء لم يحدد من هو «حبك حبيبتى منطقة الصفر» واتخذت المنطقة هذا الاسم بمرور الذاكرين من الرحالة والمؤرخين والســياح، خاصة الشعراء، الذين وجدوا هذا البيت، أروع ما قيل في الحب بلا جدوى. وذكر عالم الآثار سيمون دولافوان في الصفحات الأخيرة من سيرته الذاتية الصادرة قبل وفاته بقليل «إن منطقة الصفر، أقدم مناطق التاريخ التي لا يمكن الولوج إليها، بل يجب على الزائرين رؤيتها مــن بعيد، وحبذا لو من فوق، أو من خلال منظار من على قمــة الجبل المقابل «فقد وثّق أنه اقترب منها في إحدى جولاته من خلال طائرة، وذكر أن أهم ما أذهله، أنه لم ير المعبد، وإنما رأى القطع المكتشفة تشكل دائرة مكتملة، عكس ما هو موجود أمام من يراها مباشرة، وأغرب ما ذكره أنه شاهد عينا مغلقة على شكل صفر في وسط الدائرة، وهو ما لم يستدل عليه لاحقا، ولكنه وطد الاسم بشكل أكبر وأصبح يليق بها.

وفى آخر الأفلام الوثائقية التي انطلقت على شاشــة التلفزيون فــي عام 1976، نقل الفيلم مشــاهد تحتوي لقطات مقتضبة عن منطقة الصفــر، وتم التركيز على المعبــد، ولم يأتى ذكر لشــواهد الباحثين أو تاريخ المنطقة الملغز، وكان السرد المصاحب للفيلم لا يوحي بالخوف من تاريخها، أو استيعابه، أو حتى إدراك أهمية المنطقة، وخطورتها كما جاء في الآثار التي تحدثت عنها المخطوطات، وسير الرحالة، حتى صوت القارئ لنص الفيلم كان أكثر تفاؤلا، بأن المنطقة في حاجة إلى إعادة اكتشــاف وجذب السياح، وكانت الموســيقى تتوزع في أركان المكان، ومع لقطات الكاميرا المتتابعة، تشــكل صورة موحدة، شهية ومشــوقة للباحثين وممولى التنقيب وطالبى المجد، دعوة لإعادة التنقيب. وجه الفيلم العيون مرة أخرى إلى منطقة الصفر، وأطلق القياد لفك شــيفرتها، والبحث عن كشــف عظيم، يحمل الخلود، ودائما ما ســترى الباحثين وعلماء الآثار والممولين بكثرة على صفحات الجرائد، يصرحون ويباهون بالمبادرة، ولكن إلى الآن لــم يعلن أحد بدأ عملية التنقيب من جديد، ولم تزل المنطقة قائمة تحيطها الرهبة، ويتطلع إليها الباحثون، ولكن أخبار الاقتراب منها في هذا الزمن لم يتم العثور على مخطوطها بعد.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom