Al-Quds Al-Arabi

من يصنع المتملقين: الطمع أم الولع بدخول محراب الغالب؟

- سهى الصوفي ٭

إذا كانــت الغلبــة من نصيــب الأقــوى، فالتبعية ســتكون دائماً لصالــح الغالب حتى لــو كان ديكتاتوراً، وعليــه، فالبعد الأخلاقي والإنســان­ي للقضيــة ليــس محــط أنظــار الرعيــة ولا يدخــل فــي حســاباتها، وهي تدرج اســمها على قائمة التابعين أو المؤيدين، ما يهمهم هو الإعلان عن اســم الغالب الذي ســحق الخصم ونال لقب البطــل الأوحــد، حتى لــو كان الخصم يحــارب لصالحها وتحقيق مكتسباتها.

المفارقة الأخلاقية

أما المفارقة الأخلاقية، أنه وأثناء النزاع، تقف الرعية على مسافة أمــان من كلا الطرفــن، وتحرص أثناء عمليــة المتابعة، على تجميد ملامح وجههــا وكبت حنجرتها عن أي صيحــة تأييد قد تخرج عن طريق الخطأ، فإعلان المواقف قرار أحمق لا يغيب عن الرعية حتمية إخفائه حرصاً على سلامتها الأمنية والجسدية.

ولا بــد من الوقوف علــى حقيقة أن تحفز الرعيــة الضمني على ســحق الطرف الذي تســبب فــي مظالمها وخنقها، لا يشــكل دافعاً كافياً لحســم موقفهــا وتحديد مكانها فــي مجريات العــراك، فما في القلب، يبقى في القـــلب حتى تـــعلن النتـــيجة وتحـسم نتـائج المعـركة.

وهنا يأتي دور المفارقة الأخلاقية الثانية، فالرعية لا تريد خوض معركتها، ولكن حين يأتي متبرع لخوضها بالنيابة عنها، تدخل في عالم مــن التصورات الوردية والملاحم الخياليــة، وتوقع معه، ومن دون حضوره على اتفاقية بالحبر الســري تنص على «أن المكســب بيننا، والخسارة عليك.»

لقب البطولة

هذا الشرط الشاذ للشراكة في حالتي المكسب والخسارة، وهذا الانتظار الجشــع لســقوط تفاح الانتصار طازجاً مــن دون النضال على إســقاطه، يعكس ســقطة أخلاقية أخرى من ســقطات الرعية، تتجلى في أبشــع صورها، أثناء تهافتهــا على التفاح المرمي أرضاً، بغية تلقف أكبر قدر ممكن منه. وإن تجرأ من حارب لإســقاطه على انتقاد جشــعها، تجــرأت الرعية نفســها على انتقــاد مطامعه «لنا الحــق في الثمار كما لك الحق في لقب البطولة» وإن تجرأ أكثر على مســاءلتها عن ســبب التقاعس في مشــاركته النضال، تعجبت من استغرابه وقالت «أنت من اختار المواجهة ولم نطلبها منك».

أما المحزن، فهو إدراك المناضل، الذي اعتلى غيوم حلم مشروع، أن الوطــن ليس توأمــة بين الشــعب والأرض وإنما هــو توأمة بين الســلطة والانتفاعي­ة، والمخزي، أن من حــارب لأجله لم يحارب من أجل كرامته.

ومــع تقدم وتيــرة العراك بين طرفــي النزاع، تبدأ عيــون الرعية

بالتوجــه إلى صاحــب الضربات الأكثر، فكلمــا انهال على خصمه كلمــا رجحــت كفة الميــزان لصالحــه وتغيــرت البوصلة النفســية والأخلاقية والعقائدية للمتفرجين، مع الاحتفاظ بموقف الشــاهد الصامت حتى إشعار آخر.

وتقتــرب المعركــة مــن نهايتهــا، وتذهــب الغلبة بطبيعــة الحال للأقــوى، وتذهب الجماهير بحكم الانتفاعية للغالب، أما عن مصير المغلوب، هو الجحيم ســواء على يد الغالــب أو النبذ من مجتمعات الرعية.

وتأتي الخطــوة الثانية، بعد القضاء على الخصم، بالاحتفالا­ت، فيأمــر الغالــب بفتــح بــاب القلعــة لدخــول المهنيئئــ­ن، ليتوافــد الانتفاعيو­ن علــى طاولته، ويصبوا الكؤوس ويرفعوها في صحته مرددين أهازيج انتصاره على المغلوب، الذي كان لوقت قليل مضى بطل أحلام يقظتهم.

قصائد الشعر

ويتبــارى المنتفعون في نظم قصائد الشــعر لمــدح جرائمه، التي تأخذ اسم بطولات بعد حسن النتائج لصالحه. الكل يصبح شاعراً فــي مدح الغالــب، فنظم الرياء علــى وزن النفاق، مهــارة مجانية لا تحتــاج إلى صقــل أو موهبة، المطلــوب فقط هو عــدم التعاطي مع المغلوب والإيمان باستحقاق الغالب لتحوز على لقب شاعر البلاط. وفي زحمة التطبيل والتأليه، يوشــوش الغالب مساعديه بضرورة توســيع رقعة مائدتــه: «علينا ان نحضر طاولـــة أكبر، فالمـــحبو­ن كثر».

وحــن تفرغ الكــؤوس وتمتلئ البطــون، يعــود الوصوليون إلى بيوتهــم مفعمين بنشــوة دخــول قلعة الغالــب، فالنفس البشــرية «تعتقــد الكمال في من غلبها» ودخول عالمه، ليس ســوى إقرار غير مباشر على وجود شبه بين الضيف والمضيف.

أمــا الغالــب، فلا تغمــض له عين، لا مــن الخوف علــى أمنه، بل من نشــوة العظمة. إنه يعــرف أن الرعية المنتفعة تقــف وراء ظهره كالســيف أكثر ممــا يقف حراســه الأمنيون، فبقــاؤه يعني ضماناً لمصالحهــا ومصلحــة المنتفــع طاولــة قمار قــد يقايــض عليها ماء وجهه شــرط ألا يخرج خالي الوفاض مــن خزنة الغالب ولو كانت مصنوعة من عظام شعبه.

أجــل، ففــي عالم يمثل فيه أتباع الســلطة أضعافــاً مضاعفة من أتبــاع الوطن، لا يســبب لقب مجرم حــرب أي انتقــاص للغالب، لا بالعكس، فما كان في عرف اللغة السياسية مذمة، هو اليوم تبجيل وترهيب، ومن كان في عرف الحكم الأخلاقي جلاد، هو اليوم بطل اسطوري، ولأن العامة على دين ملوكهم، فأبجدية الأخلاق واحدة، يحومون فوق الدمــاء و ينفرون من الطيران في الســماء، التحليق خيانة، و الطاعة للغالب إيمان، ومن حارب لأجلهم كافر مطرود من الجنة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom