Al-Quds Al-Arabi

تحويل الذكرى إلى استراتيجية

- *كاتب بحريني

في هــذا الأســبوع، وإذ نســتذكر موت بطــل الأمة العربية وزعيم حلمها الكبير المرحوم الرئيس جمال عبد الناصر منذ خمســن سنة، فإنه من الحكمة والتقديس لهــذه الذكــرى الأليمة أن لا نجعلهــا مقتصــرة على الشــخصنة، وعلــى ســرد المنجــزات، ولا على الانغماس فــي نقد الأخطاء التي ارتكبت باســم التجربة الناصرية.

طبعــا، كان الرئيس ذا شــخصية كاريزمية، بقــدرات خطابية متميزة، وبتفاعل نشــيط مبهر مع الملايين الذين أحبوه ووثقوا فيه وســاندوه، وبضمير حســاس تجاه عالم الفقراء والمهمشين والمظلومين، وبعفة تجاه المــال العام، وهو الذي مات شبه معدم وشبه متصوف.

وطبعا كانت هناك إنجــازات هائلة مثل تأميم قناة الســويس، وبناء الســد العالــي العظيم، والقضاء على الإقطــاع، ومجانية التعليم في كل مراحله، واحتضان مئات الآلاف من شباب العرب والمســلمي­ن في جامعات مصر، وإسناد كل حركة تحررية في وطنه العربي، وفي العالمين الإسلامي والثالث، والتزامه القومــي الكامل بالوقوف في وجــه الكيان الصهيوني، وبنــاء قاعدة صناعية كبيرة حديثة فــي القطر المصــري، وفي تحقيق أول وحدة طوعية واعدة ما بين مصر وســوريا، وغير ذلك من المنجزات الكثيرة التي استفاد منها وســاندها الوطــن العربي كله. وطبعــا ارتكبت الكثير من الأخطاء أثناء مسيرة تفعيل ذلك الحلم الهائل في واقع الحياة العربية عبر الوطن العربي كله. فالأخطاء كانت وســتظل ملازمة للطموحات الكبيــرة، كل ذلــك هو تاريــخ حافل، لــه ما له، وعليه ما عليه، وســتكون دروسا وعبرا لأجيال كثيرة قادمة. أمــا ما نحتاج إليــه الآن فهو ربط وتفاعل ذلــك التاريخ باللحظــة الخطرة المعقدة التي تعيشها الأمة العربية، حاليا دعنا نركز على بضعة جوانب نعتبرها محورية.

أولا ـ بعــد مــوت قائد تلك الحركــة العروبية القوميــة التقدميــة التحرريــة الكبــرى، التي هيمنت على الحياة العربية، إبان الخمســيني­ات والســتيني­ات مــن القــرن الماضــي، تراجع المد القومــي وتكالبت على إضعافه فــي الواقع وفي الذاكرة الجمعيــة العربية، كل قوى الاســتعما­ر والصهيونية، والكثير من القوى الرجعية الخائفة مــن مكوناته التقدميــة والوحدويــ­ة. وصعّدت شعارات الخلاص القطري والتركيز على الوطني المحلي بعيــدا عن مشــاكل وهموم الأمــة. لكن، وبعد مرور خمســن ســنة على التوجه القطري فشل ذلك التوجه فشــا ذريعا في انتقال أي قطر عربي إلى حالة التنمية الشــاملة المســتدام­ة، في الاقتصــاد والاجتماع والثقافة، وفــي حماية أي قطر من تدخلات واستباحة الخارج الاستعماري الصهيونــي. وتشــهد الأوضاع المأســاوي­ة التي يعيشــها الوطن العربي كله حاليا على الفشــل الذريــع لتعايــش أي قطر عربي بعيــدا عن أمته العربية ووطنه العربي الكبير.

ثانيا - يثبــت يوما بعد يــوم، وفاجعة بعد فاجعة، وهجمة اســتعماري­ة أمريكية ـ صهيونية بعد هجمة، وتصرفا قطريا خاطئا بعد تصُرف، أن الطريق الوحيد لهذه الأمة، الذي ســيخرجها من الضعف والهوان إلى القوة والمنعة، ومن التخلف إلى النهوض، هو طريق وحدتهــا كأمة وكوطن. ولذلــك فهــذا الطريــق، طريق وحــدة النضال والمصير والأهــداف الكبرى القومية المشــتركة، الذي ناضل الرئيس الراحل من أجل الســير فيه، آن أوان تكملــة الســير فيه، من خــال مراجعة منهجيات تحقق أهدافه في الواقع العربي المتغيَر الجديد، البالغ التعقيد من جهة، ومن خلال تجميع وتنظيم كل القــوى المؤمنة بضرورة الرجوع إليه من جهة أخرى.

ثالثــا: هذا تحد وهدف مشــروع مطروح على القــوى السياســية المدنيــة العربية، المســتقلة عن توجيهــات وهيمنة أي جهة رســمية داخلية أو خارجيــة، لمناقشــته وإغنائــه وتحويله إلى اســتراتيج­ية نضاليــة قوميــة تقوم بهــا كتلة تاريخية عربيــة، مكونة من أحــزاب وجمعيات مهنيــة وأهليــة ونســائية، ونقابــات عماليــة وشــخصيات نضالية مســتقلة. وإذا أريد لهذه الاســترات­يجية أن تنجــح في تجييــش الملايين، وعلى الأخص الشــباب والشــابات منهم، وفي جعل الاســترات­يجية جزءا من حياتهــم العامة، فمن الضروري أن يرتبط شــعار التوحد العربي مع شــعارات الديمقراطي­ة والعدالة الاجتماعية، والاســتقل­ال القومي والوطني، كحد أدنى ليكون منطلقا لإحداث تنمية شاملة مستدامة تطال أرض العرب كلهــا. جاء الوقت لترك مواجهة التحديات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك، فقد ثبت الاقتصار على مواجهتها منفردة ومتفرقة، وبقوى متناثرة، لن ينقل العــرب إلى مجرى نهر العصر الحضاري المتدفق من حولنا.

الطريق الوحيد الذي سيخرج الأمة، من الضعف والهوان إلى القوة والمنعة، ومن التخلف إلى النهوض، هو طريق وحدتها كأمة وكوطن

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom