Al-Quds Al-Arabi

تركيا الجديدة وأذربيجان الجديدة

- *كاتب تركي

يشهد العالم تغيّرا كبيرا في كل مجال. وفي خضم ذلــك، أعادت تركيــا تعريف نفسها كدولة، وفقاً للعالم الذي سيتشكل في إطار هــذا التغيّر. والجميــع حول العالم بــات يعلم مدى اختلاف تركيــا الجديدة عما كانــت عليه في الســابق. على الرغم من ذلك، لا يزال هناك من يعتقد بأنه يعيش في العصور القديمة، وأنه لا يوجد مفهوم من قبيل «المصالح الوطنية»، وأن الولايات المتحدة فقط هي التي ســتكون لهــا مصالح وطنية، وهي التي ستحدد المصالح الوطنية للدول الأخرى.

لم يعد هناك مثل هــذا العالم بعد اليوم، لقــد كانت القوى الكبرى في الســابق، تقود وتضعف الدول في إطار مصالحها الخاصة، أمّا اليوم فعلينا ألا ننســى أن كثيراً من الأشياء التي كنا في الماضي نعرفها صحيحة، هي في الحقيقة خطأ. كل دول العالم تغير سياســتها، فالولايَات المتحــدة تريد الخروج من حلف الناتو، على الرغم من أنها من مؤسسيه، والصين تسعى إلى تجاوز حدودها للوصول إلى جميع القارات، واســتطاعت روســيا تحقيــق هدفها بعد ســنوات في النزول إلــى البِحار الســاخنة، فيما يعاني الاتحاد الأوروبي من مشاكله الخاصة، ومــع ذلك، لا تزال بعــض الدول الصغيــرة والضعيفة بمثابة بيادق تتحكم بها القوى القديمة، مثلما كانت في السابق.

يمكن فهــم إعادة التموضع مــن قبل تركيا ضــد التغيرات السياسية الكبرى في العالم، عبر الإجابة على السؤال التالي: هل كانت تركيا ستَستطيع أن تجعل حضورها محسوساً كجهة فاعلة إقليمية على الســاحة الدولية، وتسمع صوتها للجميع، لو لم تطبق «سياسة القوة»؟ اكتسب هذا السؤال رواجاً خلال الأيام الأخيرة لاسيما في ضوء التطورات في أزمة شرق البحر الأبيض المتوســط وبحر إيجة. قامت تركيــا في خضم الأزمة بتفعيل استراتيجية تستعرض طاقاتها، أو ما يعرف بـ»القوة الصلبة». فإلى جانب نبرتها القاســية في البيانات الرسمية، أقدمت على الكشــف من خلالهــا للجميع قدرتها العســكرية ميدانياً. ومثال على ذلك، تنفيذها مناورات عسكرية وتطبيقات حرب متتالية في بحر إيجة وشــرق المتوسط بقوتها الجوية، وسط مشاركة عدد كبير من سفنها الحربية وطائراتها المسيّرة. وواصلت بحــزم أبحاثها الســيزمية في مناطــق الصلاحية البحرية التي حددتها بنفسها، مصحوبة بالسفن الحربية.

ووسط هذه الخطوات، أعطت تركيا رسائل تفيد بأنها تصبح يومًا بعد يوم «قوة عســكرية» تمتلك أسلحة متطورة، أنتجها قطاع الصناعــات الدفاعية لديها بإمكانياتـ­ـه الوطنية. ولعل هذه الرســالة وصلت إلى مكانها، حيث أن الدول المنخرطة في الأزمة أو التي تورطت فيها بطريقة غير مباشــرة، بدأت تشعر بالحاجة لإطلاق عملية حوار ومفاوضات مع أنقرة من أجل منع خطر الاشتباك وخفض التوتر. فقد شهد هذا الأسبوع، انتقالًا من «الميدان إلى الطاولة»، أي أن استراتيجية «القوة الناعمة» تصدرت المشــهد. في الحقيقة، كانت تركيــا منذ الماضي تتبنى مفهوم انتهاج سياســات القوة «الصلبة» و»الناعمة» في وقت واحد. فبينما كانت أنقرة تطور قدرتها العســكرية، وتعكسها بوضوح للخارج، اتخذت الدبلوماسي­ة التركية أيضاً خطوات لحل النزاعات التي تواجهها البــاد من خلال المفاوضات. وما وصول أزمة شرق المتوسط - إيجة، إلى هذا المستوى إلا نتيجة لهذه «الاســترات­يجية ثنائية المركز». وينبغي أن لا ننســى أن الهدف الرئيسي هو تسوية النزاعات سلميا، من دون الدخول

في نزاع مسلح. إن الهدف الرئيســي للدعم الذي تقدمه تركيا للشــعوب والدول، بدءا من أذربيجان وحتى ليبيا، يتمثل في تثبيت الاستقرار في المناطق بشكل كامل. المؤسسات الدولية، التي ما فتئت تنتهج سياســة «لا حرب ولا ســام» في المنطقة منذ قرون طويلة، تسببت بزيادة الفوضى، وتغاضَت عن موت الســكان المدنيين الضعفاء بســبب القرارات غير العادلة التي اتخذتها لصالــح الأطراف القوية. كلمــا انتُهكت اتفاقية وقف إطلاق النار التــي وقعتها أذربيجان وأرمينيــا في عام 1994، يُطرح الســؤال التالي مرة أخرى: «هل سيتحول الاشتباك في إقليم قره باغ إلى حرب أوســع؟». المؤسسات الدولية كما هو الحال دائماً، لا تتخذ حتى خطــوة واحدة حيال هذه القضية، بعبارة أخرى، أصبحت المشــكلة الأذربيجان­يــة - الأرمينية، «المجمّدة» منذ سنوات، بمثابة كرة من نار «في الميدان» حاليًا.

أذربيجان التي تسلط الضوء بشــكل متكرر على الاحتلال والتعدي على أراضيها، أقدمت هذه المرة على تفعيل «سياســة القوة» ضــد أرمينيا التــي هاجمتها مجددًا بتشــجيع القوى القديمــة، وبذلــك اتضح أن أذربيجــان لم تعد كمــا كانت في الســابق، وأن «القوة الناعمة» غير ممكنة من دون ممارســة «القــوة الصلبة». إن الدول الضعيفة في الميدان، تخســر على طاولة المفاوضات، أو تبقى محدقــة في عيون الذئاب الجائعة لسنوات طويلة من أجل حل المشاكل.

الدول الضعيفة في الميدان، تخسر على طاولة المفاوضات، أو تبقى محدقة في عيون الذئاب الجائعة لسنوات طويلة من أجل حل المشاكل

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom