Al-Quds Al-Arabi

«رأيتُ شيوعياً!»

-

شاهدتُ، بالمصادفة، برنامجاً حوارياً استضاف فيه المحــاور قيادياً في الحزب الشــيوعي التركي TKP(

.) يقــدم البرنامج «إلكــر جانكليغل» مدير ‪FLU TV‬ قنــاة الثقافيــة­الســاخرةا­لتيتبث موادها عبر شــبكة يوتيــوب. وجانكليغل مخرج ســينمائي يعمل في مجال الدعاية والإعلان، يتميز حضوره بالمــرح والفكاهة، وقد اســتقطب لقناته مجموعــة من المثقفــن في اختصاصــات متنوعة يقدمون مواد في اختصاصاتهـ­ـم في قالب فكاهي، لتحتل الســينما مركــز الصدارة بين تلــك المواد، إلى جانب العلوم والتاريخ والأدب وغيرها مــن الميادين، مع غياب واضح للسياسة.

أما ضيف البرنامج الحواري فهو عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي التركــي «آيدمير غولــر». إن مجرد النظــر في طرفي الحــوار يكفي لتوقع «الآيروني» الذي ســيطبع مجرياته، وبخاصة مع قراءة عنوان البرنامج: «رأيت شيوعياً!» الذي يشــبه قولنا «رأيتُ ديناصوراً»! وقد عبر جانكليغل عن ذلك حين طرح على محاوره الشــيوعي السؤال الافتتاحي: «إن الأجيال الجديدة لا تعرف أي شيء عن الشــيوعية والشيوعيين، وربما لم يروا في حياتهم شــيوعياً واحداً، وهذا ما جعلني أضع هــذا العنوان المثير. ما رأيك بــه؟» فضحك غولر وقال: «هذا غير صحيح. فالقــول بأن الأجيال الجديدة لم تر شــيوعياً واحداً، يشــبه القول إنها لم تر فاشســتياً واحداً» ليقاطعه جانكليغل ضاحكاً: «أبداً، البلد مملوء بالفاشستيي­ن، نراهم في كل مكان!»

على هذا المنوال من المشاكسة استمر الحوار لأكثر من خمسين دقيقة. ركز مقدم البرنامج عموماً على غياب الشيوعيين عن المشهد السياسي، واحتاج الضيف الشيوعي إلى كثير من لي عنق الواقع ليثبت العكس، تارةً بالتركيز على بعض النجاحات المتواضعة للحزب الشــيوعي في الانتخابات البلدية حيث شــهد العام الماضي فوز أول شيوعي برئاســة بلدية محافظة ديرسم )تونجلــي( هو «فاتح محمــد ماجوغلو» وأخــرى بالعودة إلى الشــعبية الواســعة لتيار اليسار عموماً في ستينيات وســبعينيا­ت القرن الماضي أو بذكر بعض أعلام الأدب التركي كناظم حكمت وأورهان كمال ويشــار كمال، وثالثة بادعاء «الحاجة الموضوعية» لاســتعادة اليسار لقوته في المستقبل بالنظر إلى أزمة اليمين وفشله في تركيا والعالم.

وحين سأله المحاور عما يريده الشــيوعيو­ن، استعاد الخطاب التقليدي الذي يتحدث عن الظلــم الواقع على الطبقات الكادحــة والنهاية الحتمية لليبرالية. لكن القســم الأكبر من جوابه على هذا الســؤال تركز على تمسك الشــيوعيي­ن بالعلمانيـ­ـة، أما القوى السياســية الأخرى فهــي جميعاً غير علمانية برأيــه. المحاور الذي أدهشــه هذا الحكم القاطع ســأله عن حزب الشــعب الجمهوري الذي يعتبر «الحزب العلماني فــي تركيا» بمعنى أكثر الأحزاب تشديداً على العلمانية. فكان جواب القيادي الشيوعي هو أن قادة الحزب الجمهوري وغيره من الأحزاب التي تدعي تمسكها بالعلمانية، غالباً ما يطلقــون تصريحاتهم الصحافية بعد صلاة الجمعة! «كلهم يصلون، وفي الجامع!»

يا للهــول! كيف لعلماني أن يصلي ويرتاد الجامــع! إلى هذه الدرجة من الضحالة انحدر القيادي الشــيوعي فــي مفهومه الغريب عــن العلمانية. صحيح أن المرء يتوقع من قادة حزب الشــعب الجمهــوري أن يكونوا أكثر مبدئية في موضوع العلمانية الشــخصية، لكن ذلك ليس شــرطاً لتمسكهم بعلمانيــة الدولة. وأعتقد أن ارتياد بعض قــادة الحزب للجامع هو نوع من الانتهازية الشــعبوية لكســب قلوب القطاعات المتدينة في المجتمع التركي. رئيس الحزب كمال كلجدار أوغلو بالذات يبــدي حرصاً كبيراً على مراعاة الحساسية الدينية التقليدية في البيئات المحافظة على أمل اختراقها لمصلحة حزبه، بعدما احتكر تمثيلها حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ 18 عاماً. لكن مظاهر التدين الشــخصي، بصــرف النظر عن صدقها مــن عدمه، ومراعاة القيم المحافظة لا تنفيان عن الحزب الجمهوري تمسكه بمبدأ علمانية الدولة وتصديه لمحاولات الحزب الحاكم لأسلمة كثير من مؤسسات الدولة والحياة العامة عموماً. من المحتمل أن مفهوم العلمانية لدى القائد الشــيوعي آيدمير غولــر هو على علاقة تضــاد جبهي مع الدين، الأمر الــذي نعرفه في بيئات الشيوعيين الســوريين أيضاً الذين لديهم حساســية مفرطة تجاه الإسلام وكل ما يتعلق به.

الواقع أن هذا التركيز على علمانية اختزلت إلى عداء للدين، من شــأنها تغييب ما يســمى في لغة الشــيوعيي­ن «التناقض الرئيســي» أي مناهضة الأنظمة الدكتاتوري­ة في بلداننا التي أقفلت الميدان السياسي وألغت المجتمع وحاولــت أن تجمد التاريخ، فبات العمل علــى إزاحتها هو «المهمة المركزية» والملحــة قبــل أي اعتبار آخــر. بتركيزهم علــى «الخطر الإســامي» يفقد شــيوعيون فرصة التلاقي مع أغلبية اجتماعية أو الســعي إلى تمثيلها، في حين أنهم يلقون باللائمة على المجتمع «المتخلف» الذي لا يتبنى برنامجهم.

هذا لا يعني أن «الخطر الإســامي» شــيء ملفق ووهمــي. هو موجود حقيقةً، ويزداد قوة وخطراً كلما فرغت الســاحة له بفضل تقاعس الأحزاب العلمانية، ومنها الشــيوعية، عن تحديد المشــكلة بشــكل صحيح وإنتاج برنامج عمل لمواجهتها.

وسأل جانكليغل ضيفه عن السبب في جهامة الشيوعيين وحالة الغضب التي يبدو كأنهم يعيشــونها بصورة مســتمرة. فنفى القائد الشيوعي ذلك وجــاء بأمثلة من ســتالين في مواقــف فكاهية، مبرراً غضب الشــيوعيي­ن بمبدئيتهم. «فهم يدافعون عن قضايــا حقيقية بصدق وإخلاص، فلا غرابة أن يحتد النقاش وأن يضربوا الطاولة بقبضاتهم»!

المفارقــة أن معنى كنية «غولر» إذا ترجمناها إلى العربية هو «الضاحك»! وبعد سؤال جانكليغل عن جهامة الشيوعيين رأينا أسنان الشيوعي التركي أكثر من مرة.

كان حــواراً ممتعاً حقاً بــن مقدم البرنامج الذي يصل بــه «الرواق» أن يسخر من نفسه بلا حرج، ومناضل شيوعي ينتمي إلى عالم آخر.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom