القائمة العربية المشتركة في الكنيست... عن الهدف والأداة
يقف المواطنون الفلســطينيون الذيــن يحملون بطاقة الهوية الإســرائيلية، هذه الاسابيع والاشهر القليلة المقبلة، على عتبة مرحلة جديدة تماما، من مراحل نضالهم المتواصل منذ عــام النكبة 1948، يمكــن ان تكون لهــا تأثيرات بالغة الايجابية، وليست مقصورة على اوضاعهم فقط، بل وعلى مجمل اوضاع الفلســطينيين في الوطن وفــي دول اللجوء والشتات، بل وربما على مجمل الاوضاع في العالم العربي، والمنطقة بشكل عام؛ كما يمكن لها ايضا، ان تتعرض لعراقيل كثيرة، من فلســطينيين وغير فلســطينيين، قــد تصل الى اتهامات )باطلة( تلامس التشكيك بوطنيتهم.
مــن هنا، فإن قــرار الكتابــة عن الوضع السياســي في إســرائيل، مــع تركيز علــى المواطنين العرب هنــاك؛ وعن الكنيســت )البرلمــان( الإســرائيلي و »القائمــة العربيــة المشــتركة» فيه؛ وعمّا تحقق، وما هــو قابل للتحقيق؛ وعن «الهدف» (كلّ هدف( الذي يتحــول، فور إنجازه، الى مجرّد «أداة» لتحقيــق الهــدف التالــي؛ وعن إمكانيــة، ومنافع، ومخاطــر التحالف مع قطاعات مــن الجماهير اليهودية في إسرائيل؛ هو اشبه ما يكون بقرار دخول حقل الغام.
كل هذه المحاذير، وما فيها من مخاطر حقيقية ملموســة، واضحة لي تماما. ولكن ما اعتقده مصلحة وطنية فلسطينية عليا، تجعلني اختار قرار دخول حقل الألغام هذا، مع حرص على تجنب الدّوس على أيٍّ من ألغام هذا الحقل الذي لا يملك أحدٌ خريطةً دقيقةً له، واســتند، لتلبيــة هذا الحرص، الى تسجيل ما اعتقده، وما انا مقتنع به، في نقاط محددة، على النحو التالي:
1ـ علــى مــدى عقديــن تقريبــا مــن النكبــة، عانــت جماهير الأقلية الفلســطينية في إســرائيل، من ظلم الاهل الفلســطينيين، و »ظلــم ذوي القربــى » العــرب لهم، ومن التشكيك بالتزامهم الوطني الفلسطيني، والتزامهم القومي العربــي. بدأ هذا الظلم في التلاشــي، فــي النصف الثاني من ســتينيات القرن الماضي، )ويجدر بــي التذكير هنا بان الخطوة الاولى في اتجاه رفع الإفتراء الفلسطيني والعربي على هذه الجماهير، كانت خطوة الشــهيد الكبير، غســان كنفاني، عند اصدار كتابه عن «شعراء المقاومة.)»
2ـ تــا العقديــن الأولين ثلاثــة عقود، )حتــى نهايات القرن العشــرين( حفلــت بلقاءات بين قيــادات وجماهير الفلســطينيين في إســرائيل، بدءاً من تواصل عبر «الخط الاخضر» مع الفلســطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم اخذ هذاالمنحى بالتوســع، ليصل الى تواصل مباشر مع قيــادات «رأس الحربــة» الوطنية الفلســطينية، مخيمات اللجــوء فــي الاردن و »دول الطــوق » الاخــرى، وقيادات «الكفاح المســلح الفلســطيني» (وهو كفــاح جدير بإعادة للإعتبار له( ثــم مع اجهزة وأُطر وممثلــي منظمة التحرير الفلســطينية، وما رافق ذلك من تنسيق مواقف، بلغ ذروته بتشــكيل اعضاء الكنيســت العرب في إســرائيل، بقيادة الراحل، توفيق زيّاد، وعبدالوهاب دراوشة، لـ »شبكة امان » مكّنت رابين وحكومته من اقرار اتفاقية اوسلو في الكنيست، )وهــي ايضا الاتفاقية الجديرة بإعــادة الإعتبار لها، ولكن ليس في سياق هذا المقال(.
3ـ مع انتهاء المرحلة الانتقالية لاوسلو، دون انجاز اقامة الدولة الفلســطينية المستقلة، ســاد العمل الفلسطيني عقد كامــل من الضبــاب والعتمة، تخلله تنكــر رئيس الحكومة الإســرائيلية في حينه، ايهود باراك، لاتفاقية اوسلو، ورفع شعاره المدمّر: «لا يوجد شــريك»؛ وما لحق بذلك من نجاح لأريئيل شــارون في تفجير «الانتفاضة الثانية» واستدراج «عسكرتها» لتلعب في الســاحة الأكثر ملاءمة لغلاة اليمين العنصري في إســرائيل، بل والى إشــراك الأقلية الوطنية الفلســطينية فيها، وخاصة في ايامهــا الاولى، وهو ما أدّى الــى الغاء كل قدرة لجماهيــر تلك الاقلية علــى التاثير في الشارع اليهودي في إسرائيل؛ وبدء تآكل دور قيادة منظمة التحرير، الذي بلغ ذروته برحيل القائد والرمز الفلسطيني، الشــهيد ياســر عرفات؛ ونجاح شــارون في اقرار وتنفيذ الانســحاب من قطاع غزة، دون تنسيق مع منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلســطينية، واخضاع القطاع لحصار خانق ومتواصل، ليسقط ســنة 2007، )كما توقع شارون( لقمة ســائغة بيد حركة حماس، معلنا على رؤوس الاشهاد بدء «الانقســام» الفلسطيني، والتشــكيك بوحدانية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني. لقد كان عِقداً اسوداً.
4ـ انتقــل «رأس الحربــة» في العمل الفلســطيني بفعل نكبة 1948 الى خارج «الخط الأخضر» وإثر حرب حزيران/ يونيو المشــينة، تركز «رأس الحربة» في مخيمات اللاجئين في الاردن بشكل خاص، ثم تمدد باتجاه مخيمات اللاجئين في لبنان وسوريا، ليســتقر اثر احداث ايلول الاسود 1970 في بيروت وجنوب لبنان، وبعدها في تونس بدءاً من سنة 1982، الى حين انطلاق الانتفاضة الفلســطينية عام 1987، حيث ساد التنســيق والانضباط بين قيادة منظمة التحرير
و»رأس الحربة» الجديد في قطاع غزة والضفة الفلسطينية، الــى ان عادت قيــادة منظمــة التحرير برئاســة ابوعمار، )بفضــل اتفاقية اوســلو( لتشــكل قيادة العمــل الوطني الفلسطيني و»رأس الحربة» فيه، وظل هذا الوضع قائماً الى ان وقع «الانقســام» بالانقلاب في غــزة، وتآكل دور منظمة التحرير، وانكشــاف عبثية المفاوضات مع إسرائيل، لينتقل «رأس الحربة» الى الجماهير الفلســطينية في إسرائيل منذ ما يزيد على عقد حتى الآن.
5ـ لكل «رأس حربة» ظروف، وقواعد وقوانين، وادوات، واســلحة: عندما كان في مخيمات دول الطوق، كانت أداته الاساســية هي الكفاح المســلح، وســاحه الاساســي هو الكلاشــنكوف والـ»أر بي جي» وما تيسر وامكن من مدافع وغيرها. وعندما انتقل الى لبنــان زاوجت منظمة التحرير بين الكفاح المســلح والعمل السياســي لكســب التأييد في الســاحات العربية والدولية، وعندما انتقــل الى تونس، اصبح التركيز على العمل السياســي، ورعاية قوات الحركة الفدائية الفلسطينية في الدول العربية، والعمل على تشكيل بنى مقاومة منظمة ومنسقة في قطاع غزة والضفة الغربية، وعندما تفجّرت وانطلقت الانتفاضة، كان سلاحها هو الحجر ورفع العلم الفلســطيني. وعندما انتقلت قيادة المنظمة الى جزء من ارض الوطن، واعادت شــغل موقع «رأس الحربة» من جديد، بعد اوســلو، كان ســاحها المفاوضــات، وبدء بناء مؤسســات السلطة الوطنية السياســية والتشريعية والقضائية والاقتصادية وغيرها، اســتعدادا لتحقيق اقامة الدولة الفلســطينية. لكن ذلك لم يتم. وعندها انتقل «رأس الحربة» الى الجماهير الفلســطينية في إسرائيل، واصبح ســاحها، في هذه المرحلــة «بطاقة الهوية الإســرائيلية» وحق الترشــح والانتخاب، وأداتها التماسك، والعمل داخل المجتمع اليهودي في إســرائيل، وزيادة المقاعد التي تشغلها في الكنيســت، وبناء تحالفات جدية وحقيقية مع قطاعات من المســتنيرين والليبراليين في الشارع اليهودي، وصولا الى المســاهمة في رســم السياســة الإســرائيلية. لشعبنا الفلســطيني تاريخ مشرف من النضال بكافة الأسلحة، على مدى ما يزيد على قرن من الصراع في مواجهة مع الصهيونية العنصرية المدعومة من الغرب ومن الشــرق، والمتحالفة مع القوة الأعظم في العالم. ولا يضيرنا، بل ويشرفنا، ان نركز في كل مرحلة من مراحل نضالنا، )الذي طال كثيرا، لســوء حظنا( على التزام شعبنا بمواصلة النضال، ملتزمين بقواعد
وقوانــن الصراع، ومســتخدين، فــي كل مرحلــة ســاحها المتوفر والمشروع.
6ـ انجز «رأس الحربة» الوطني الفلســطيني الحالي، الكثير: تمكن من لملمة وتجميع قواه السياســية الفاعلة، وشكّل قائمته العربية المشتركة للانتخابات، وحقق رقما قياســيا في عدد المقاعد في الكنيست، واحتل بجدارة موقع الكتلة البرلمانية الثالثة مــن حيث الحجم. هذا انجاز كبير. لكــن كل انجاز، في أي مجــال كان، يتمثل في البداية كـ»هــدف» ويتحول فــور انجازه ليصبــح «أداة» لتحقيق الهــدف التالي. انتقل الصوت الفلســطيني في إســرائيل، بفضل تشكيل القائمة المشــتركة، من «مقاعد المتفرجين» الى «مقاعد لاعبي الاحتياط» هذه نقلة نوعية بامتياز، يلي هذه النقلة الخطوة التالية، وهي الانتقال الى «ملعب السياســة الإسرائيلية» حيث يتم رسم السياسات وإقرارها وتنفيذها. هــذه النقلــة الضروريــة والمطلوبــة والممكنــة، يدعو لها ويناصرها ويدعمها 72 من الفلســطينيين حاملي بطاقة الهوية الإســرائيلية المســتطلعة آراؤهم، حسب ما جاء في وسائل الاعلام الإسرائيلية.
تحقيق هذا الهدف، )مع انعكاســاته المباشرة والفورية على اوضاع وحياة الفلسطينيين في إسرائيل، وانعكاساته على كل ابعاد القضية الفلسطينية، بدءاً من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وصولا الى جميع الفلسطينيين فــي دول اللجوء والشــتات، وعلــى كل اوضــاع المنطقة العربيــة( ممكن جدا، لكن ليس بزيادة عــدد مقاعد القائمة المشتركة في الكنيســت، وانما ببناء تحالف مع مستنيرين وليبراليين في الوســط اليهودي في إســرائيل، استعدادا، من الآن، لانتخابات الكنيســت المقبلة. هل نحن على ابواب انتخابــات في إســرائيل؟. نعم، وكثيرة هــي الدلائل التي تشــير الى احتمال تفجر الخلافات بين المكونين الاساسيين لحكومة نتنياهو/غانتس الحالية، في شــهر كانون الاول/ ديسمبر المقبل، لتكون الانتخابات في آذار/مارس من العام المقبل، أي بعد ســتة أشــهر من الآن. انها مهلــة زمنية غير طويلة، ولكنها كافيــة لترتيب مثل هــذا التحالف، الذي لا يمكن تجاوزه في تشكيل أي حكومة إسرائيلية مقبلة.