Al-Quds Al-Arabi

صديق اللغة العربية وحامل صخرتها

- إبراهيم نصر الله

تبــدو رحلة دنيس جونســون ديفــز )1922-2017( مع ترجمة الأدب العربي أشبه بحكاية سيزيف مع صخرته، ولعل ما يسجل لهذا الصديــق الكبير للغــة العربية، أنه حمل العبء بحماســة قلّ نظيرها، دون أن يتبادر له أن يطرح سؤال الربح والخسارة.

إن تأمــل حيــاة ديفز هــو تأمل لحيــاة الأدب العربــي الحديث برمّتــه، فهــذا الصديق الــذي «لم ير فــي بلاده شــيئا يُحبّ» حين عاد إليها طفلا في الثانية عشــرة من عمره، هــرب منها إلى عالمنا، فعايــش تحــولات الأدب العربي كلها منــذ نهايــة الثلاثينيا­ت من القــرن الماضي؛ عايش طفولة الرواية العربية في بداياتها، والتقط بذرة التحــوّل، كما حدث حين قــرأ لأول مرة روايــة «زقاق المدق» وصــاح صيحة نيوتن: لقــد وجدتُها. وجدتُ تلــك الرواية العربية التي يمكــن أن تترجم إلــى الإنكليزية وتثير الاهتمــام! كما عايش فيما بعد، بذور التطوّر التي أحدث تغييرا حقيقيا في الأدب العربي كمــا في «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم، وقصص يحيى الطاهر عبــد الله. ولــذا، نعيش معــه، في كتابــه «ذكريات فــي الترجمة» لحظات ميــاد أعمال الطيب صالح واحدا بعــد آخر. ولعل الطيب صالــح مــن القلة القليلة التي يبــدو الكاتب حزينا بشــأنه، لأنه لم يُعــطِ أكثر، علــى العكس من كاتب مثل نجيــب محفوظ الذي يعلن دنيس فرحه بمنجزه النوعي الكبير.

لا أخفي أنني كنت أشــعر بالدهشة كلما التقيته وتحدّثت معه، فهو الذي كان، يوما ما، صديق الكاتب الشــاب نجيب محفوظ في الأربعينات! وأستاذ الطالب إحسان عباس! وصديق يحيي حقي، لويــس عــوض، توفيق الحكيــم، محمــود تيمــور، أدوار الخراط، الطيــب صالــح، توفيق صايغ، غســان كنفانــي، وجبــرا إبراهيم جبرا منذ أيام الدراســة الجامعية، كما هو صديق سعيد الكفراوي ومحمد البساطي ويوسف أبو رية...

لــم يســلم وجود ديفــز في القاهــرة من احتــكاك قــويّ بالملك فاروق، الــذي أغضبه أحد تعليقات دنيس فــي الإذاعة على رواية «يوميــات نائب في الأريــاف» لتوفيق الحكيم، لمجــرد أنه وصفها بأنهــا صــوّرت الفقــرَ الــذي عاش فــي ظلّــه الكثير مــن الفلاحين المصريين، حيث اســتبدّ الحنق بالملك فــاروق، إلى حدّ أن خطواتٍ كانت في ســبيلها إلى أن تتّخذ لإعلان ديفز شــخصا غير مرغوب في وجوده في مصر!

«ذكريات في الترجمة» شهادة عن قرب في تجربة عدد من أهم الكتاب الذيــن أثّروا في الأدب العربي، وأثْــروه، كما أن رحلته مع نمــاذج الأدباء في مصر هي في الحقيقة رحلة مع كل نماذج الأدب العربي، من حيث نظرة الكتّاب لأنفســهم؛ تواضع بعضهم، أو ذلك المستعد لأن يدفع له مقابل الترجمة، فيرفض المترجم، أو ذاك الذي يقول له: كان عليك أن تكرّس حياتك لترجمة كتبي فقط!

يســرد ديفز في كتابه الأنيق الصادر عن «دار اليربوع» للنشــر والتوزيــع، ذكريــات الزمــن الأول، والزمــن التالي، ولعله يســرد ذكريات الزمن القــادم، لواقع أدبي عربي محاصر بعدم الاهتمام، الداخلــي والخارجي؛ وشــهادة أيضا فــي أســاليب الكتابة التي يتّبعهــا الكاتب العربــي، بعيدا عن وجود محرريــن يقرأون الكتب قبل نشــرها، كما يحدث في العالم الغربي، ما يملأ الكتب بالزوائد والأخطاء، ولا يســلم من ذلــك حتى بعض كبار الكتــاب. ولعل ما حصل معه ومع نجيــب محفوظ النموذج الســاطع لهذه المعضلة، فحين راح يترجم له روايته «رحلة ابن فطومة» وجد أن اسم البطل قد تغيّر فجأة في وســط الكتاب! فاتّصل بمحفوظ هاتفيا بشــأن هــذا الأمر، فبدا هذا الاكتشــاف لصاحــب الرواية طريفــا للغاية. فســأله: «أي اســم أطلقه عليه إذن؟» فردَّ محفوظ ضاحكا: «اختر الاسم الذي يعجبك»!

عايش جونســون ديفز الكُتَّاب العرب حتى أصيب بما أصيبوا به: كُتبٌ بلا عوائــد، ومصير غامض على الكاتب العربي أن يقطعه وحيــدا، دون أن يعثر على من يدعم ترجمات كتابه: «يوافق صلاح عبد الصبور، الذي كان يشغل منصب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتــاب، على شــراء مئة نســخة مــن مجموعة مترجمة ستُنشــر ليحيى الطاهر عبد الله، ولكنه يموت، فيذهب جونسون ديفز للقاء من حلَّ مكانه ويناوله الورقــة الممهورة بتوقيع عبد الصبور، فيرد هــذا: «لكن صلاح عبد الصبــور مات!» فيقول له جونســون ديفز: «وأنا وأنت سنموت كلانا»! ويغادر دون أن يشرب قهوته.

وفي مكان آخر ينوّه إلى أن دار هاينمان إديوكيشنال طلبت في الثمانينات مبلغ خمســة آلاف جنيه إســترليني فقط، كانت كافية لإنقاذ سلســلة «مؤلفون عرب» لكنه لــم يتمكّن من العثور على هذا الدعــم العربي البســيط لهذه السلســلة من أي مصدر فــي العالم العربي.

وهــذا يذكّرني بما قالته يوما الدكتورة إيزابيلا كاميرا دافيليتو التي قاتلت طويلا من أجل الأدب العربي في إيطاليا، حين حدّثتني عن أســباب وقــف سلســلة «ذاكرة المتوســط» المختصــة بالأدب العربي -والتي كان الكتاب يترجم فيها إلى ســت أو سبع لغاتبأن المشــروع الذي دعمــه الاتحــاد الأوروبي توقّــف لأن وزارات الثقافة والســفارا­ت والمؤسسات الثقافية العربية لم تتقدَّم لشراء نسخة واحدة لدعم هذا المشروع، أو لتبدي اهتمامها به على الأقل.

يقــول ديفز: «يعدُّ وضــع الكاتب في مصر، على ســبيل المثال، أليمــا اليوم، فالمــال الذي يحصل عليــه من كتاب لن يكــون كافيا لطبعه على الآلة الكاتبة، وليس الوضع على مستوى العالم أفضل بالنسبة للكاتب العربي: لقد اقتضى الأمر حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل لكي يقوم ناشــر من مستوى دار دوبلداي بنشر أعمالــه. إن الناشــرين اليوم هم، فــي المقام الأول، رجــال أعمال، ويمقتون خوض غمار المخاطرات».

حــن تصل عوائد نشــر مجموعــة قصصية ليحيــى حقي، عن ســتة أشهر، يقرر يحيى حقي تأطير الشّيك، لأنه يرى أن من العيب صرْفــه، فالمبلغ المرســل هــو ثلاثة جنيهــات إســترليني­ة ونصف الجنيه! ويُدهش ســعيد الكفراوي الذي ترجــم له دنيس مجموعة قصصية، حين تقاســما حقوق نشــرها بســبب المبلــغ المتواضع. يســأل الكفــراوي: لكن ألم تكســب عيشــك من الترجمــة كل هذه السنين؟! وكان الردّ الموجز: كلا، ولله الحمد! وبعد: كتــاب «ذكريات في الترجمة» الذي ترجمه عن الإنكليزية كامل يوســف حســن، إبحار مذهــل في الزمــن والذكريــا­ت والأمكنة، وحافــل بالحيويــة والجمـــــ­ـــال والصِّدق والتّواضــع، وبقدر ما هــو رحلة تمتد من نهاية الثلاثينــ­ـــيات حــــــتى اليــوم، مع الأدب العربــي، إلا أنهــا رحلــة في روح شــــــفاف­ة، عايشــت نمــو الأدب العربــي الحديث، وعايشــت أيضا نمو مــدن ودول عربيــة كثيرة عاش فيهــا المؤلف: الســودان، مصر، بيروت، الإمــارات، المغرب، العراق وغيرها الكثير.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom