Al-Quds Al-Arabi

العلاقة الهشة بين الجزائر وفرنسا في رواية «رعاة أركاديا»

- موسى إبراهيم أبو رياش٭ ٭ كاتب أردني

تلامس رواية «رعاة أركاديا» نهايات الاستعمار الفرنســي للجزائر، خاصة في مدينتــي «المدية» و«حاســي بحبح» من خلال صوتي شــخصيتين رئيســيتين هما، «أوجي فرو» (محمــد( و«أركاديا بِشــار» اللذين كانا مدرســن وزميلين في مدرسة المدية، وربطت بينهما علاقة حميمية قوية، انتهت بحمل أركاديا، ومغادرة الجزائر إثر استقلالها عام 1962، ومن ثم عادت إلى «حاسي بحبح» مرة ثانية بعد خمســن عاما، لتخبر أوجي بأبوته لنيكولا، الذي ولد مصابا بالتوحــد ومات طفلا، وغادرت، وما لبث أوجي أن توفي بعدهــا بأيام. وقد برزت أدوار مؤثرة في الرواية لشــخوص أخرى بشكل مباشر وغير مباشــر مثل: مصطفى لقرع، ريموند، الكولونيــ­ل كوتراكس، هنري بوديــاك وزوجته كلارا وأخيــه موريس، النذير عم أوجي وعيشــة عمتــه وجدته، زخروفــة، الفرقانــي، نيكولا ابن أركاديا ووالدتها وزوجها دافيد، ديغول، الشــاب الذليل، وغيرهم.

بداية، الرواية تتقاطع مع الرواية السابقة لمحمد فتيلينــه وهي «كافي ريش» إلى حــد كبير؛ لكأنها تكمل المشهد من زاوية أخرى، أو تؤكد عليه، ويمكن ملاحظة أوجه التقاطع في العديد من المفاصل منها:

الفضــاء الزمني لــكلا الروايتين هــو، نهايات الاســتعما­ر الفرنســي للجزائر، ثم قفــزة زمنية تجــاوزت نصف قــرن، حيث عادت الشــخصية النسائية الرئيســية في كليهما إلى الجزائر، ففي «كافي ريش» عادت «غزلان» الفرنســية إلى مدينة وهران؛ تلبيــة لدعــوة احتفاليــة بالمقهى، وفي «رعاة أركاديا» عادت «أركاديا» للالتقاء بصديقها الحميــم، لإخباره عن ولدهما الــذي مات صغيرا، واللافت أيضا، أن «غزلان» كانت من أسرة يهودية، وكان والد «أركاديا» يهوديا.

في «كافــي ريش» لعــب المقهى دورا رئيســيا ومؤثــرا، وحضر كشــك قهوة مصطفــى لقرع في «رعاة أركاديا» كمكان للالتقاء، وتبادل الأحاديث وكمعلــم بارز في «حاســي بحبــح». وكما برزت نغمة التعالي الفرنســي والفوقية بقوة في «كافي ريش» فقد حضرت أيضا «رعاة أركاديا» من خلال الجنــود والكولونيل كوتراكــس وغيرهم، وحتى على لســان وتصرفات أركاديا التي قالت لصديقها ذات نقاش: «لولا فرنســا يا أوجي ما كنت لتدّرس معي الآن» غير أنه في «رعاة أركاديا» ظهرت بعض الشــخصيات التي انحازت للجزائر، مثل ريموند وهنري بودياك وأخيه موريس.

وتناولت كلا الروايتين بعض عمليات التصفية والقتــل للثــوار والأحرار، والأصــوات المناهضة للوجودالفر­نسي،علىيدعصابة فيرواية «كافــي ريش» وفــي عمليات «صيــد الإرهابيين» في «رعاة أركاديا». كمــا أظهرت الروايتان عملية خروج الفرنســيي­ن عن طريق ميناء «سيدي فرج» الذين أطلق عليهم لقب «الأقدام الســوداء»؛ لعدم تقبلهم اســتقلال الجزائر، ومنهم فــي الروايتين «غزلان» و«أركاديا».

جــاء عنــوان الرواية نســبة للوحــة «رعاة

أركاديا» للفنان الفرنسـي نيكولا بُـوســان، التي أعاد رســمها الطفل نيكولا لوالــده، وهي الذكرى الوحيدة لأوجي من ابنه الــذي لم يره، واللوحة ترمز إلى أن لحظات الســعادة قصيرة وســريعة الانقضاء، ولعلهــا تختصر علاقــة «أركاديا» مع أوجي، التي لم تكن إلا لحظــات عابرة، وتختصر أيضا المغامرة الفرنسية في الجزائر.

تميزت رواية «رعــاة إركاديا» بالفضاء المكاني الرحــب، الــذي امتد عبر جــزء كبير مــن بادية الجزائر، فشــمل المدية و«حاسي بحبح» والجلفة وباديتها والبرواقية، وانتقل إلى العاصمة ومدينة ليون الفرنســية وغيرها، ما أكســب الرواية بعدا معرفيا مهما للقارئ للتعــرف على جغرافيا عربية شــبه مجهولة، خاصة من مواطني دول المشــرق العربــي، وتســتحثه للبحــث عن هــذه الأماكــن والتعــرف إليها، وهــذا يُســجل للروايــة ومن علاماتها البارزة. كان نيكولا ثمرة علاقة غير شــرعية بــن أوجــي وأركاديا، لحظــات مســروقة، ومتــع خاطفة، بل كان ثمرة اللقاء الأخير بينهما فــي أروقة ســجن البرواقية، فولد مريضا بالتوحد، ولم يطل به المقام فمات طفلا، وهذا يرمــز إلى أن العلاقة بين الجزائر المســتعمَرة، وفرنســا المســتعمِرة، وحتــى بعد الاســتقلا­ل وخروج فرنســا، هي علاقة مؤقتة، غير متكافئة، مشوهة، هشة، علاقة متوهمة، سرعان ما تتفسخ، ويتموضع كل فــي بلده، فالجزائر هــي الجزائر، وفرنسا هي فرنســا، ولن تكون الجزائر فرنسية مهما طال اســتعماره­ا، واضطهد شعبها، وطورد أحرارها، كمــا أن أركاديا ســجلت حقيقة العلاقة بين البلدين بقولها: «رغــم أن هذا البلد الذي أراه الآن يختلــف كليا عن الذي طُردت منه، إلا أنني لم أستوعب بعد أن الحبل السري الذي ربطه بفرنسا ـ أكثر مما اســتغرقته حرب المئة عام- ســيكون مجرد ذكرى كنســائم البحر المقبلة إلى شــواطئ كالي النورماندي­ة » وهذا يرســخ أن كل دخيل زائل وراحــل مهما طال الزمــن، وأن لا رابطة ولا علاقة حقيقية بين الجــاد والضحية، ولا بين الســارق

والمسروق.

برزت في الرواية شخصية «زخروفة» الطبيبة الشــعبية في إحدى واحات باديــة الجلفة، التي ترمز إلى أصالة الجزائر وتراثها الغني، التي على الرغم من صلف المستعمر وفوقيته، إلا أنه لجأ إليها طلبا للعون والمساعدة والتطبب، بعد أن يئس من الطب والأطباء، فلجأ إليهــا الكولونيل كوتراكس لعلاج زوجتــه، كما لجأت إليها أركاديا أيضا، وفي هذا تأكيد للتفوق الجزائري، وســر من أســراره التي لا يمكن أن تطاله فرنسا مهما بلغت من تقدم، ففي الشرق ســحر وروحانية وقدسية لا تفارقه، ولن تستطيع فرنسا أن تنتزعه أو تستولي عليه. وبالمثل جاءت شخصية «عيشة» عمة أوجي، رمزا

للبساطة والبراءة والطهارة والحنان والصراحة، بدون أقنعة أو بهارج. وفي المقابل ظهرت شــخصية «النذير» عم أوجي، بكل سلبيتها ودناءتها وخستها، فقد كان مدمنا على الخمر، أكل ميراث العائلة، وكان عميلا للمســتعمر، وزور شــهادة مجاهد ليتقاضى راتبا شــهريا، وافترى علــى ابن أخيه بوشاية أدخلته الســجن، ومنع رسائل أركاديا أن تصل إليه بســلطة عمله في البريد. وهي شخصية موجودة وواقعية، فلا تخلو المجتمعات من نماذج ســلبية كهذه، تنخر في المجتمع وتســيء لأبنائه، وتأثيرها أخطر من العدو المباشــر، لأنها تعرف كل شيء، وتهاجم الضحية من مأمنها.

الملاحــظ، أن أركاديا، على الرغــم من علاقتها الحميميــة مع أوجي، إلا أنها لم تتقبل اســتقلالي­ة الجزائر، وترى أن عليها أن تبقى تابعة لفرنســا، ولــولا إلحــاح مصطفى لقــرع عليها، لمــا أخبرت أوجي عن ابنه نيكولا، ربما رغبة في الاســتحوا­ذ، وحرمــان الأب من ذكــرى ابن وحيد مــن صلبه، وهــذا يؤكد أنه لا حب حقيقي مع فوارق الســلطة والتبعيــة، بينمــا تلغي الشــهوة هــذه الفوارق ضمة- الجزائر، ‪198 2020،‬ صفحة» حافلة بقضايا كثيرة مرتبطة بالاســـــ­ـتعمار الفرنســــ­ي، وما خلفه في الجزائر من تركــة ثقيلة، وقدمت للقارئ العربي وجبة دســمة لجانب مــن تاريخ الجزائر الحديث، والمكان الجزائري المتنوع، وتميزت بلغة جميلــة موحية، وســـــرد ماتع، وحبكــة هادئة سلسة.

ومما يجدر ذكره أنه صــدر للروائي الجزائري محمــد فتيلينــه عدد مــن الروايات منهــا: «على حافــة البحيرة، بحيرة الملائكة، أحلام شــهريار، غبــار المدينــة، تيمــو، خيــام المنفــى، ترائب.. رحلة التيــه والحب، كافي ريــش» بالإضافة إلى بعض الإصــدارا­ت القصصية والشــعرية، ونال مجموعة من الجوائــر منها: «جائــزة دار أطلس للرواية العربيــة، 2015» عن رواية «غبار المدينة» و«الجائزة الفرنكفوني­ة لأحســن القصص، 2015» لدار «المخطوطة» الفرنســية، برعاية اليونيسكو، و«جائــزة الطاهــر وطــار، 2019» عــن روايته «ترائب.. رحلة التيه والحب».

 ??  ??
 ??  ?? محمد فتيلينه
محمد فتيلينه
 ??  ?? لحظيا. كما أن شــخصية أوجــي ظهرت متأرجحة بلا مواقف قوية أو واضحة تجاه فرنســا، وتقبل بعض المواقف التي تعامله بفوقيه ودونية، ولا أدل على ذلك من تدريسه اللغة الفرنسية إبان الحقبة الاســتعما­رية، في مفارقة دالة علــى هوية تائهة وشخصية بلا ملامح.
وبعد، فإن روايــة «رعاة أركاديا، منشــورات
لحظيا. كما أن شــخصية أوجــي ظهرت متأرجحة بلا مواقف قوية أو واضحة تجاه فرنســا، وتقبل بعض المواقف التي تعامله بفوقيه ودونية، ولا أدل على ذلك من تدريسه اللغة الفرنسية إبان الحقبة الاســتعما­رية، في مفارقة دالة علــى هوية تائهة وشخصية بلا ملامح. وبعد، فإن روايــة «رعاة أركاديا، منشــورات

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom