تغيير بدون إسلاميين: السياسة والخروج من الحتمية الثقافية
ســاد لعقود طويلة منظور سياســي- ثقافي عن التغيير في العالم العربي: اســتبعاد القوى الإســامية من المشــاركة في الحكم والعملية السياســية، مظهر ومســبب أساسي لغياب الديمقراطية، باعتبار هذه القوى ممثلا لشــرائح واسعة، قد تكون أغلبية المجتمع. دمقرطة الدولة العربية تمّر حتما بإشراك الإسلاميين في السلطة من جهة، وإعادة تأهيلهم ليصبحوا أكثر تقبّلا للقيم الديمقراطية من جهة أخرى.
يبدو هذا الطرح متماسكا، وغير قابل للنقد من زاوية سياسية بحتة، فإلغاء قوى قادرة على حشــد المؤيدين والأصوات الانتخابية، فعل مناف للديمقراطية بالتأكيد، ولكنه يثير أســئلة كثيرة على مستوى النظرية السياســية: كيف يمكن، بشكل مســبق، اعتبار تيار معين ممثلا طبيعا، أو شــبه طبيعي، لشرائح سكانية عريضة، في غياب العملية السياسية الديمقراطية نفســها، ورغم عدم وجود حيّز عام مفتوح؟ يحيل هذا السؤال إلى السياسة، بوصفها عملية أو صيرورة مســتمرة: لا يمكننا أن نعرف مدى حيثية الإسلاميين في عملية سياسية ديمقراطية، قبل تأسيس وإطلاق هذه العملية نفسها.
هنالك ســؤال آخر: هــل يمكــن أن تتوفر الشــروط الأساســية للعملية السياســية الديمقراطية، وأهمها وجود الحيز العام المفتوح، بحضور القوى الإســامية الحالية، حتى بعد كل عمليات المراجعة وإعادة التأهيل التي مرّت بها؟ الإحالة هنا إلى السياسة بوصفها بنية: مــن الصعب تخيّل بنية نظــام ديمقراطي تحوي كما هائلا مــن المحرمات في الجدل العام، وتعاني جديّا في تقبّل أبســط الحريات الفردية والاجتماعية، وعلى رأســها حرية المعتقد والتعبير، ومن أكثر مضامينها أولية حرية تغيير الدين أو نقده.
إذا نظرنا للسياســة، بوصفها عملية تجري داخل نســق معين، يصبــح منظور تمثيل الإســاميين لشــرائح معينة لا معنى له، فالتمثيل لا يتمّ إلا عبر آليات النسق الديمقراطي، وبعد ترســخها، وربما كانت القوة المفترضة للقوى الإسلامية ناتجة أساسا عن غياب هذا النسق. العامل الوحيد، الذي قد يدفعنا لافتراض حيثية سياسية - اجتماعية للإسلاميين، ســابقة لأي نســق ديمقراطي، هي الحتمية الثقافية: المجتمعات العربيــة متديّنة بطبعها وجوهرها، وهذا الجوهر الثقافي ســينعكس حتما على أي عملية سياسية. وبما أن العرب متدينون دائما وأبدا، وكل ما في أشــكال اجتماعهم الإنساني يعكس هذه الحقيقة، فالحل الوحيد لجعلهــم قريبين من الديمقراطيــة، بوصفها أفقا عالميا، هــو مصالحتهم معها عبر الإسلاميين. قد يكون هذا المنظور مناســبا جدا لبعض مراكز الدراسات الغربية في العقود الماضية، ويفســر جانبا من الحماس الكبير لبعض التجارب الإسلامية «الديمقراطية» مثل تجربة حزب «العدالة والتنميــة» التركي، ولكن يمكن القول إنه بات منظورا عتيقا للغاية، بعد كل التغيرات السياســية والاجتماعية، التي عرفتها المنطقة، والتي طرحت أسئلة أكثر عمقا عن تلك الحتمية المفترضة.
لا سياسية التقليد
تبــدو التصورات عــن الحتميــة الثقافية غير سياســية بالضرورة، فســواء اعتبرنا السياســة نتيجة لتشــكيل إرادة عامة ونمط معيّن من الحس الســليم، عن طريق فرض الهيمنة السياســية والأيديولوجية لقــوى ما، أو رأينا أنها يجــب أن تقوم على الانتصار العقلاني لـ«الحجة الأفضل» في الحيز العام، فمن المتعذر بناء التصورات السياســية على حتمية ثقافية لا تتغيّر: يمكن بناء تركيبات سياسية وأيديولوجية لا متناهية من العناصر الثقافية الحاضرة اجتماعيا، الإســامية شــكل من أشــكال هذه التركيبات، يمكن تأريخ نشــوئه وتطوره، وليس الشــكل الوحيد والحتمي. من ناحية أخــرى يمكن للدين تقديم حجج سياســية واجتماعية عقلانية فــي الحيز العام، ولكن معيار هذه الحجج ســيكون عقلانيتها، أو بالأصح إمكانية ترجمتها إلى لغة عقلانية مشتركة، وليس تطابقها مع الأصل الديني، مادامت معدّة للطرح في جدل عام بين أطراف متنوعة المعتقد والتوجه السياسي.
هنالك شكل آخر لطرح الحتمية الثقافية: الإسلامية قد تكون تعبيرا سياسيا، عن مقاومة البشر في العالم الإسلامي للسياســات الإمبريالية والهيمنة الثقافية الغربية، ما يجعلها، بشكل من الأشــكال، «صوت الجنوب» حسب التعبير الشــهير للباحث الفرنسي فرانسوا بورغا، وعلى الرغم من أن هذا الطرح يلحظ أن الإســامية لم تكن يوما الشــكل الوحيد، أو حتى الأكثر فاعلية في العالم الإســامي، لمواجهة الاضطهاد الخارجي، إلا أنه قائم على مصادرة تجعل نقاشــه متعذرا وغيــر مفيد: ما البرهان على أن مواجهــة المركزية الغربية والإمبريالية هي العامل السياســي المحرّك للمجتمعات العربية والإسلامية؟ وإذا افترضنا بالفعل أنها كانت محركا أساســيا في فترة التحرر الوطنــي، فلماذا الافتراض أنها ما زالت وستبقى أساسية في كل الفترات والعصور؟
التجربــة التاريخية القريبــة، تطرح كثيرا مــن الاعتراضات على الحتميــة الثقافية: اســتطاعت الدولة المصرية، عقب انقلاب الثلاثين من يونيو/حزيــران، أن تنتج نوعا من الهيمنة، قام أساسا على مواجهة الإســاميين، عن طريق مزيج من الرطانة الوطنية ودعم الميــل المحافظ اجتماعيــا والتخويف من الفوضــى؛ التغيير في الســودان قامت به قوى نقابية وسياســية ذات ميل مدني، على أساس مواجهة «الكيزان» أو «الزواحف» (العسكر والإســاميين(؛ ورغم النجاحات الانتخابية لحزب النهضة التونسي إلا أنه لا يبدو ممثلا حتميا حتى للتونسيين الأكثر تدينا، وأظهر كثيرا من الهشاشة وسط التقلبات السياسية. وإضافة للوقائع السياســية المباشــرة، تُبدي المجتمعات كثيرا من المظاهر التي لا تتفق مع مــا يفترض أنه تقليد اجتماعي مترسّــخ، وأصبحت قضايا مثل، حقوق النســاء والمثليين والحرية الجنسية والإلحاد جانبا من الجدل اليومي في العالم العربي.
التقليــد بهذا المعنــى ليس أكثر من نموذج ذهنــي اختزالي، قد يكون مفيــدا لفهم بنية ممارســة اجتماعية ما، ولكنه لا يصلح بالتأكيد لدراســة الأوضاع السياســية والثقافية القائمة لمجتمعات تتمتع بحيوية كبيرة، وتُنتج دائما عديدا من خطوط الانفلات.
وإذا كان بناء السياســة على الحتمية الثقافية للتقليد، أمرا متعذرا، فما الأفق السياسي المتبقي للإسلاميين؟
المأزق التسلطي
إذا تجاوزنا منظور الحتمية، يصبح ما هو مطلوب من الإسلاميين شديد الالتباس: عليهم أن يصبحوا ليبراليين للغاية، لدرجة أن يصبحوا الرافع الأساســي للحريات الاجتماعية والفردية الأساسية، وأن يحتفظوا بالوقت نفسه بهويتهم بوصفهم إسلاميين.
التجربــة التركية وضّحت في الســنوات الماضية مدى عمق هــذا الالتباس، بقاء حزب «العدالــة والتنمية» في الحكم، بدون انقطاع، اســتلزم كثيرا من الإجراءات التســلطية، المرتبطــة بخطاب شــعبوي قومي- دينــي، وهجوم متواصــل على كثير مــن الحريات الاجتماعية والفردية للمواطنين الأتراك، فضلا عن حروب لا تنتهي مع «العدو» السياسي، وهو في الحالة التركية الآخر القومي أساسا. يصعب اليوم اعتبار تركيا نموذجا لديمقراطية إسلامية، بل باتت حالة نموذجية لسياسات شعبوية تسلطية لا تجد تبريرا لها مجددا، إلا بالحتمية الثقافية. وإذا كانت الشعبوية شكلا من أشكال الممارسة السياسية، فإن الإدعاء الشعبوي الإسلامي، قد يُواجَه يوما بادعاء مخالف، قادر على إزاحته. بهذا المعنى لا يبدي الإسلاميون قدرة على تأسيس أنظمة ديمقراطية مستقرة، وتبدو التسلطية لازما من لوازم السياسة الإســامية، التي لا تســتطيع، بحكم بنيتها الأيديولوجية نفسها، التخلّص من المنظور القمعي للحتمية الثقافية. قد يطرح هذا مأزقا آخر، لا يخصّ الإســاميين وحدهم: يبــدو أن الديمقراطيــة غير ممكنة مع الإســاميين، وغير ممكنة بدونهم، أو على أســاس استبعادهم، في الوقت نفسه.
«شعب» التغيير
فكرة وجود أحزاب دينية في الديمقراطيات الراســخة ليســت أمرا غريبا، ولعل المثال الأبــرز هو الحزب الديمقراطي المســيحي الألماني، الــذي حكم ألمانيا للفتــرة الأطول بعد الحــرب العالمية الثانية، واســتطاع فعلا أن يكون «حزب الشــعب» الضامن لأساســيات النظام الديمقراطي القائم. إلا أن تجربة الحزب المســيحي الألماني مستندة أساسا إلى ميل محافظ، قائم على تصليب القيم الاجتماعية والثقافيــة والدينية للبورجوازية، وهي قيم قائمة ومُمارســة بالفعل، وأصبحت التيار الاجتماعي الرئيســي، فيما يبدو الإســاميون أكثر راديكالية وأقــل محافظة: هنالك دائما تاريخ مجيد وقيــم ضائعة يجب العودة إليها واسترجاعها، وإعادة هندســة المجتمع من جديد على أساسها. قد تكون المشكلة في غياب فئة اجتماعية راسخة تضمن المشروع الديمقراطي، وهذا ما يجعل السعي للديمقراطية في العالم العربي ثوريا بالضرورة، ولا يبدو الإســاميون، نظرا لحتميتهم الثقافية، الطرف الأمثل لتبنــي القيم التحررية، بل عائقا أساســيا أمام تحقيقها، وقــد يكون انتظار طرف إسلامي، يدعم حرية المعتقد والتعبير وحقوق النساء والأقليات والمثليين، انتظارا عبثيا.
وإذا كانت هذه الفئات المتضررة من التســلطية العربية صاحبــة المصلحة الفعلية في النضال لأجــل الديمقراطية، ولا يمكنها أن تأمل بتبني الإســاميين لقضاياها، فلا يبدو أن التغيير الديمقراطي في العالم العربي يســتلزم بالضرورة إشراك الإسلاميين به، بل ربما كان العكس صحيحا، في الحالة الســودانية تم بناء «شــعب» أي ائتلاف اجتماعي متعدد الفئات والمطالب، حامل لمشــروع التغيير، على أســاس التضاد معهم. ورغم كل المشــاكل والأزمات، يمكن اعتبار ما حققته الثورة الســودانية مــن الأفضل عربيا، ولذلك فربما كان تعميم تجربة ذلك الائتلاف ضرورة عربية ملحّة.