Al-Quds Al-Arabi

شعرية العائلة في مجموعة «مَرَدْ روحي» للعراقي عباس اليوسفي

- ٭ ناقد وأكاديمي من العراق

■ صدرت للشــاعر العراقي عباس اليوسفي مجموعته الجديدة «مَرَدْ روحي» عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2020، وهي بقصائدها النثرية -إلا قصيدة )لن أتذمر(- وعاءٌ لروح الشاعر التي انفتحت على شعرية ـ سميتها شعرية العائلة ـ هاجس الشاعر في ما تأمل عوالم لم يســتعرها، ولم يبالغ في تشكيل حجم الألم الذي ذبح أناه من الوريد إلى الوريد، بل ظل يكابد الهم من دون أن يمنحه فرصة الانقضاض على الذات.

والعائلة التي تهيمــن على متن المجموعة ليســت عائلة )الشاعر( وحســب، إنما هي عائلة أكبر: الأهل، والشعراء، والأصدقاء... وإذا كان عنــوان المجموعة «مَــرَدْ روحي» فإن )مَــرَدْ( لفظٌ )عراقي جنوبي( له إيقاعه الاســتعما­لي الخاص، يُرَد إلى مَــرَدَ الذي يأتي بمعنــى مرس، ومص، ومــزق، ودفع ، ومــرَدَ يمرُد، مُرودا، فهو مــارِد، والمفعول ممرود عليه، أي أن الشــاعر فــي طفولته )مَرَدَ( روحَ أمه، وهو الآن ماردٌ استرجاعي يلهو بــورق الشــعر، ويغفو علــى أعتاب الذكريات، وهذا يعني أن العنوان مستل من فضاء الثقافة الشــعبية، التي لا تمت بصلة إلى ثقافــة النخب، والخطابــا­ت الرفيعة، ومقولات الســلطة، وكتابــات التمييز بين البشر؛ لأنها ببساطة ثقافة جمع من الوعي العام.

كانــت قصائــد المجموعة ابنــة المعاناة التــي لا يســتعيرها الشــاعر مــن الآخر القريب، أو البعيد، بــل كان ينفخ برمادها من تحت لســانه، فتأتيه طوعا مثل الهواء الذي يستنشــقه بلا دفع مؤجل بشروطها اليومية التي يســترجع من خلالها الماضي: «يا وطني.. كنتُ صغيرا. وكان يعودُ أبي... عندما يذهبُ بعيدا. وأظل أســأل: لم يتركني وسط هذه الغابة؟ وأمي تزحف دموعُها. وتقول: يا إلهي متى. أراه. يكسر الصغير ألعابه، وتنادي: يا عباس يا مَرَدْ روحي.»

وتأتي بعضُ القصائد محمولة على جناح الألم، ومخاض التجربة التي كادت أن تودي بحياة الشــاعر لكن القدر كان معه، مع ألم دفين، وتطلع لتجاوز الحال، وبزوغ الســؤال المحير: )إلى متى يبقى؟( فلا يمكن للحياة أن تبقى واقفة هكذا: «التل صار مقبرة. والبعيرُ أضحى مجرد ذكرى. أكلتها الشراســة» هنا يأخذ الاســترجا­ع الشاعر إلى ســؤال طفولته، والدرس العراقي الذي تعلمناه جميعا في )القراءة الخلدونية( في الســنة الأولى من التعلم، ذلــك الذي منطوقه: )إلى متى يبقى البعيرُ على التل؟( هل لبعير الطفولة بعد أن ينزل من التل، ولا ينتظر نعمان؟ هنــا تصبح الإجابة ضربا من العبث، والشــاعر يحاكي درسه الأول، وهو يعلم أنْ ليس له وطن، ولا بيت، ولا تل، ولا

بعيرٌ ســوى القصيدة، التي يصنع من خلالها حكايات وطن، ومدن، وقــرى تصوغ نماذجها التــي لا تغادر تأريخهــا، ولا تخون، وله أن يتغزل بوحدته القائمة: «أيها الوحيد. المتوحد إلا منك. تململ بقاياك. المنسوبة لي».

وتنفتح القصائد بشــعريتها اليومية علــى أصدقائه الأدباء ففي «كأني أنت يا أنا» تنســرب القصيدة في مجرى الشعر نحو الروائي حســن كريم عاتي مبــدع رواية «اليوســفيو­ن» ولكنها ســرعان ما تنزلــق نحــو الســياب «يغنــي بأعلى صوته. مطــر.. مطر. مات الســياب، ولــم يبصــر المطــر» فالمفارقة حاضــرة، والتغاير في الاســتدعا­ء، والخطــاب الموجه للأصدقــاء حاضــر: «فأعــود محملا. بالمفاشل. أصدقائي» وقد يسترجع الشاعر ذكرى من رحل من الأهل والأصحاب، ففي «بكاء أبيض» تتوجه القصيدة بحزنها القار نحو الأب: «لماذا يا أبي. لماذا تبكي في الليل. وتترك النهارات. حيرتني يــا أبي» فضلا عن توجه الرثاء نحــو القاص إســماعيل عيسى، فيصير ضربا من التذكير: «فجأة. هكذا تمر مســرعا.. دون سحابة تســتظلك» أو في قصيدة «بكائية أخرى لمالك اليوســفي» التي أردا لها أن تتجاوز بكاء متمم بــن نويرة على أخيه، والشــاعر يرثي أخــاه الأكبر، ففــي قصائد الرثاء السابقة تغيب نبرة الحزن القديمــة، لتحضر لغــة القصيدة بهيبتها المتواضعة، وهي تتخطى الموت بوصفه مأســاة لتستقر في حدود صياغــة ســردية يتكثف فيها الربطبين الُمتوفىوالحي­اة.

ويسترجع الشاعر مجموعته الشــعرية الأولى )اليوسفيات( بما يشــبه الحنين إلى أيامه الأولى، بإيجاز يدعــم فكرة تكثيف الدلالة: «أرقصي. أيتهــا الأيام. على أوتاري» والســير على الــدرب الأول، فتحضر أولى القصائد التي نُشــرت في الصحف عنوانا في إشــارة إلى قصائد يرثي بها نفســه، والســياب ، وأمير الصعاليك عروة بن الورد، فضلا عن حضور اســم الشــاعر في المجموعــة ثلاث مرات، لعل ذلك الحضور تجريب آخر يدعو من خلاله الشــاعر إلى التمسك بصوته الواقعي، بوصفه مبدعا، فما أن يدخل الشاعر المتن الشعري، حتى تصبــح حقيقة وجوده موضع عناية ثقافيــة عند المتلقي، وهو يكتشف أن لغة الشعر تتجه نحو الأعماق، ليصبح المتلقي نفسه على دراية مفارقة، تشــير تأويلا إلى أن الشاعر يتموضع في النص ليؤكد انطلاقه نحو الخارج.

ويسهم الاسترجاع في استحضار أصدقاء مازالوا على قيد الحياة جاســم الخالدي مثلا، وهو ناقد وأكاديمي: «ليــل يا. ليل. الأصدقاء تخلوا عــن تيجانهم. وأخــذوا يغنون. لذكرياتهم البائســة» وفرج الحطاب الذي كان شــريكه في تأليف «الشــعر العراقي الآن» وعبد الله لفته والد الشاعر ذلك الذي قُيد اســمه سهوا في سجل العائلة، وإلى «إليه فحسب» يريد به نفسه، والشاعر جمال الحلاق في منفاه الأســترال­ي، وإلى «الفقدان» الذي جعل الناس في متاهة المشــاهدة «قدرنا. أننا لا شــمال لنا. لا جنوب. غربيون. شــرقيون. والمبصر لا يبصرنا» فكانت مهمة الشــاعر التفتيش عن الوجــوه التي غادرته، والحقول التي تركض بلا هدف، واللهاث وراء الكلمات.

ويســترجع الشــاعر من ذاكرة الألم حفل التقاط صورة جماعية، فتكون القصيدة أشبه بســردية عمر يحتفل بكل شيء ليصغي لأنين زمانه «صــاح: - وهو يرى الوجوه قد أينعــت» - هل اكتمل العدد؟ فبين صبــر المصور على مزاح الأصدقاء، والتناص مع مروية الحجاج بين يوســف الثقفي تكتمــل القصيدة، والصورة في عدســة المصور إشارة إلى زمن هارب نحو الزوال، يغامر بالوجوه الأليفة ليأخذ بها نحو المقصلة.

لا تخلو المجموعة مــن هجاء مبطن، فقد كانــت قصيدة )مواكب( هجاء لمراكب أشخاص تذرع الشوارع طولا وعرضا، وليس لها «سوى الصفيــر. من الأعماق. عميقــة ضحالتهم كشــرفة تثرثر. بالخالات. والعمات» القصيدة تتجه صوب ما هو اجتماعي ينحو بالشــعر نحو شعرية نقدية، همها الكشــف عن الخلل في النسق الفاعل في بنيتي الزمان، والمكان، ذاك الذي له أثر في تشكيل الصورة الحياتية تشكيلا مغايرا للطبيعة الإنسانية المتعارف على طبيعتها.

وفي المجموعة ما يشبه الهجاء الشفيف كما في قصيدة «لن أتذمر» التي كانت في محبوب صار جد بعيد، والهجاء في القصيدتين يسلك ســبيل الرؤى التي تريد بالمهجو أن يكون أليفا، وقريبا، بقي أن أشير إلــى أن قصيدة «كأنكِ» التي يــؤدي تكرار )الــكاف( و)أن( و)كاف الخطاب( فيهــا إلى القبول بالفكــرة التي مؤداها أن الُمشــبَه به في خطابها غير ممكن الوقوع، بل مستحيل تحققه، وهو ما تكبده الشاعر يوم كان يحلم بإمساك المستحيلات بوصفها ممكنا، ولكن هيهات!

قصائد «مَرَدْ روحي» تبتكر لنفســها طقسا شــعريا شعبيا ينفتح على هموم الأهل بلغة تتسم باليسر المحتفي بوقائع الحياة، والشاعر فيها شــفيف جدا، ولكن بمواقف جريئة، وهذا ما كان، ويكون لشاعر القصيدة اليومية التي برع عباس اليوسفي في كتابتها، وهو يرى في بانوراما الحياة مكمنا لشــعرية يجب الاحتفاء بها، ولو بلغ الشاعر فيها يومه الأخير.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom