Al-Quds Al-Arabi

لميعة عباس عمارة: تشييد قصيدة الأنوثة في الشعر العربي الحديث

- ٭ كاتب فلسطينيّ

الشــعر العربي الحديث محظوظ، بشــاعرات مُبْدعات رائدات أمثال نازك الملائكة، ســعاد الصُبــاح، فدوى طوقان، ولميعــة عباس عمارة، اللاتي شَــكّلْنَ رافعة لنهضــة الأدب العربيّ ومانفيستو لتحرّر المرأة، في مجتمع القبيلة والهَيْمَنَة الذُكوريّة. لقد نَقَشْنَ قصائدَهنَّ الإنسانية المشاكسة والمتمردة والغاضبة، في سِفْرِ الشّعر العربيّ، وبقين ملتزمات بالهمّ الجماعي وقضايا الوطن والإنسان. كما بَرَعْنَ في إسماع صوت المرأة العربية، المحرومة في بلاد الَمنْع والقَمع، من البَوْحِ بحبّها، وبمفاتن جسدها وبمشاعر أنوثتها الُمخَبّأة.

لميعة عبّاس عمارة، النّوْرَسَــة العراقية الُمهاجرة قَسْــرا منذ عام 1978، والمقيمة في جنوب ولاية كاليفورنيا الأمريكيّة، بعيدا عن العراق الَمشْــغوفة به، والسّاكن في أحنائها وأشعارها، هي صوت الشّــعر العراقيّ الُمهاجر إلى أمريكا، المســكون بالوجع والحُرْقة والحنين، والعابق بحضارة بلاد الرافدين الُممْتدة في عُمْق الزمن. وهي تجسّد الصّوت الأنثويّ الجريء، بين جيل الروّاد، أمثال بدر شــاكر الســيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البيّاتي وَبُلَنْد الحَيْدَريّ. لميعة شيّدت قصيدة الأنوثة وأضاءتها، في خريطة الشعر العربيّ الحديث، واحتفت بثنائية الجسد، والروح وأصبحت الأنا الشاعرة النَرْجسيّة الجريئــة، تثــور وتبوح بالمســكوت عنه، متماهية مع كاليبســو الجميلة التي اشتهت أوديســيوس جَهْرا: «أحتــاج إليك حبيبي الليلة / فالليلة روحي فرس وحشية/ أوراقُ البــردى ـ أضلاعي ـ فَـتِّـتْـــها / أطلِقْ هذي اللغةَ الَمـنسـيّـه/ جَسَدي لا يحتملُ الوَجْدَ / ولا أنوي أن أصبحَ رابعةَ العدوية.»

قصيدتها أحيانا صاخبة هادرة كبركان، وأخرى عفوية انســيابية وهادئة كهَسْهَسَة النّخيــل، والأنوثــة تفوح مــن نصوصها، والأنا في قاموســها نّرْجســيّة وشامخة، لا تعرف الانحناءة، تُخاطب الحبيبَ الحاضرَ والغائــبَ معا، وتحــاورُ غريمتها بمحاباة، رغــم اقتناصها حبيبهــا، وتنعتها بماضيها الذي تحوّل اليوم إلى ظلالها، وتنفي بشكل قاطع الصورة النمطية عن غيرة المرأة: « أنا وأنْــتِ التَقَيْنا / في حبّه، مــا عَلَيْنا؟ فاصل/ أغارُ منك ؟ مُحالٌ؟ / الحُبُّ يُغْني كُلَيْنا». هذا المشــهد الفريد الذي يكشف ســلوك الرجل فــي المجتمع الذكوريّ يتكرّر في مشــهد ثان من قصيدة «ماضــيَّ أنت»: أَغارُ منك؟ مُحالُ / أحْبَبْتِهِ أَنْتِ قَبْلــي/ وَكُنْتِ بالأمسِ عَيْني/ وَكُنْتِ بالأمسِ كُلّي/ ماضيَّ أَنْتِ تمادى/ فَاَصْبَحَ اليومَ ظلّي/ وربّما عِشْـُـت فيهِ/ غَدا إذا لَمْ تَمُلّي/ أَنْتِ التِقاءٌ عجيبٌ/ وَلَحْظَةٌ من تَخَلّي/ وَفِتْنَةٌ يَعْتَرينــي/ زَهْوٌ لأنّكِ مِثْلي». هذا الفتور والتماهي مع غريمتها في حبّ الرجل نفسه، استثنائيّ لصورة المرأة الموسومة في السرديات القديمة، خاصّة أسفار الشعر كما في مجنون ليلى «غِرْتِ ليلى من المها / والمها منك لم تَغَرْ». الأنا الشاعرة تشكّل مركــز الدائرة والهمّ الجماعيّ، تتباهى وتزدهي بتضاريس جســدها وكنــوز أنوثتها، كما في قصيدة «لستُ غَيْرى» وهي الشهرزادية الحاذقة، التي تعرّي شَهْرَيارها بداية ثمّ تروّضه بكنوز أنوثتها العطشى، وحقولها المنتظرة الحصاد، ثمّ تهمزه بسخرية مرة لاذعة، ناعتة إياه بالسيّد الطفل، ولهذه الســببية تغفر له عبثيته: «ســيدي طفلي/ تُرى أين قضيتَ الليلَ/ ليلَ الأحدِ؟/ مُثقَلا بالشُّغْلِ؟/ أمْ بينَ ذراعَيْ أغيَدِ ؟/ يا نَديَّ الثَّغْرِ، ثغري عَطِشٌ/ لم يَبرُدِ / كم تمنَّيتُكَ بالأمسِ/ فما نَعِمَتْ عيني / ولا ضمَّتْ يدي/ أنا خوفٌ مُزمِنٌ تجهلُهُ / وحقولٌ مُرَّةٌ لم تُحْصَدِ». هذه الجرأة الإيروتيكي­ة، مشحونة بروح التحدّي والإدانة والرفض، لمجتمع ذكوريّ متعسّف، وهي تحمل هموم المرأة الشرقية، المســكونة بالشموخ والوفاء والأنوثة الجميلة: لستُ غَيْـــَرى/ أنتَ إن أحبَبْتَني/ عانِقِ الأرضَ، ونَـــمْ في الفرقَدِ/ كلُّهُ حُبٌّ/ فصدري صدرُها / وبها مِنِّيَ لينُ المســندِ/ وبها من حُرَقي أروَعُها/ رِعشــةُ النارِ، وحِضْنُ الموقِدِ». وفي نهاية القصيدة تحتفي الشــاعرة بديمومة حبّها ووفائها، وبســخريته­ا المرّة، وتجاهلها لتصرفات عشيقها الشرقيّ: «أيها الطفلُ الذي أعشَقُهُ / أطِلِ اللهوَ/ لتبْقى وَلَدي/ أنا أهواكَ كما أنتَ/ استَرِحْ / لا تُبادِرْني بِـعُذرٍ في غدِ.»

الشاعرة من روّاد الحداثة الشّــعرية، قصائدها من إرهاصات التكنولوجي­ا ولغة الإشارات

والرمــوز العنكبوتية، فهــي مُخْتزَلَة وموجزة أشــبه بوَمْضات وبَرقيات، ومُرتكزِة على التفعيلة المســمّاة خطأ «الشــعر الحرّ» وهي عفوية تحملُ مشاهد يومية مَعيشة من حياة المرأة الشرقية، وتتكئ على الإيقاع والموســيق­ى والصور الشــعرية والدراما، من حيث توظيــف الديالوغ، لكنّها طافحة بحــروف النفي والرفض التلقائية المنثالة من شفتَيْ المرأة الشرقية

في ردّها على أســئلة الرجل، لإبراز لاءاتها النابعة من تكوينها الثقافيّ، كما في قصيــدة «عراقية» التي تحمل الصوتَ والصدى: « تُدَخِّنــن؟ لا.../ أتَشْــرَبين؟ : لا../ أَتَرْقُصــَن؟ لا../ مــا أَ نْتِ؟.. جَمْعُ لا؟.. أنا التي تراني.../ كلُّ خُمولِ الشــرقِ في أرْداني.../ فَما الذي يَشُــدُّ رِجْلَيْكَ إلى مَكاني؟ / يا سَيّدي الخَبيرَ بالنِسوانِ/ إنَّ عطاءَ اليوم شيءٌ ثانِ/ حلّقْ! فَلَوْ طَأْطَأتَ.. لا تَراني». لكنّ تعترف في قرارة نَفْسِــها أنّ الرجلَ هو عالُمها الَمنْشــودُ والُمشْتَهى «ما زلتُ مولَعَــة، تدري تولُعُها/ مشــدودة لك من شَــعري ومن هُدُبي/ مــن دونك العَيْــشُ لا عَيْشٌ، وكثرتُهُ / دربٌ طويلٌ، فمــا الجدوى من النّصب؟». وهي متعلّقة بالرجل تعلّق الفراشــة بالضوء الذي هو الفناء، فجســد الرجل في قاموســها هو الهلاك بترميز قصيدتها «مثلث برمــودا»: «صدرُكَ قاعدةٌ / وذراعــاكَ الضلعان، تتلاشــى أيُّ امــرأةٍ تدخل هذي الأكــوان / وأنا / أعرفُ هذا/ وأظلُّ لِـحُـبِّـــكَ مشدوده/ بين ذراعيكَ/ مثلَّـــث برموده». كما أنّها مَسْكونَةٌ بالقلق عليه والخوف من فُقْدانه، لأنّه هو ما تَبَقّى لّها بَعْدَ فُقْــدانِ وطنها، وقد نَذَرّتْ كلّ حُبّها له، وهي وفيةٌ لــهُ مثل بينلوبــي، وتجلّى ذلك في قصيدتها «لوْ أنْبَأني العــرّافُ» الُمفْعَمَة بالتراث «لَوْ أنْبَأني العَرّافُ / أنّكَ يَوْما سَتَكونُ حَبيبي /لَمْ أكْتُب غَزَلا في رَجُلٍ/ خَرْســاءَ أُصَلّــي» والتقاء الحبيب في التيه، والفجائعية مــن هجره لها، محفورة في حدسها «لو أنبأني

العرّاف إني ســألاقيك بهذا التيه/ لم أبكِ لشيءٍ في الدنيــا/ وجمعتُ دموعــي / كلُّ الدمعٍ / ليوم قد تهجرنــي فيه». كذلــك تخاطب امــرأة أخرى تغارُ على زوجها منهــا «اطمئِني / فزوجُــكِ المصونُ في أمان/ لي رجلٌ أحِبُّه / ولا أحبّ غيرَهُ / ولا أحبُّ بَعْدَهُ / إنســانْ». كما أنّها تكَثّف في مناداته وهوَ الغائبُ البعيدُ عنها «عُدْ لي صَديقا، أخا، طِفْلا أُدَلله / عُدْ لي الحبيبَ الذي جَدَّ في طلبي». كما أنّ وطنها العراقَ الُمشْــتَهى حاضرُ في أشعارها بجماله وعذاباته، وتشكّل بغدادُ قيثارَتَها الحزينة وعُصارة دُموعها «وتعصفُ بغدادُ في جانحيَّ/ أعاصيرَ من ولهٍ لا تذر/ بخورٌ لها أدمعي، ما أقلَّ / عطاءَ الفقيرِ إذا ما نذر/ وبغدادُ قيثارتي البابليةُ / قلبي وهُدبي عليها وَتَر/ لها في قلبي سحرُ كُهّانهــا/ وآثارُ ما قبَّلوا من حجر». الشــاعرة تعاني وجع الغربة، التــي وصفها الروائي جبرا إبراهيم جبرا في «الســفينة» بأوجع اللعنات: لعنة واحدة هي أوجع اللعنات لعنة الغربة عن أرضك» ولميعة عباس عمارة، الغريبة على الأطلسيّ، تحمل في أشعارها، صدى حسرة قصيدة زميلها وصديقها رائد شــعر التفعيلة بدر شاكر الســيّاب «غريب على الخليج» التي نقش فيها فسيفســاء لوعة الشّوق والحنين من غربته الكاوية إلى عراقه الأثير حيث يقول فيها «لو جئت في البلدِ الغريبِ إليَّ ما كمل اللقاء / الملتُقى بك والعراقُ على يديَّ.. هو اللقاء/...../ حتَّى الظلامُ هناكَ أجمل فهو يحتضنُ العراق/ واحســرتاهُ متى أنام / فأحسُّ أنَّ على الوســادةِ / من ليلِك الصَّيفي طــلَّا فيه عطرك يا عراق؟/ بين القرى المتهيّبات خطَــاي والُمدن الغريبة/ غنَّيت تربَتك الحبيبة/ وحمَلتُها فأنا الَمســيحُ يجرُّ في الَمنفى صليبه». هذه النخلة العراقية الشامخة، أعادت شعر الحبّ الأنثويّ الجريء، ورسمت في قصيدتها صورة جديدة للأنثى النرجسية الشامخة، الحاملة حضارة سومر وعَبَق عُشْتار وذكاء شهرزاد.

 ??  ?? لميعة عباس عمارة
لميعة عباس عمارة
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom