Al-Quds Al-Arabi

مناظرة رئاسية أم «مصارعة في الطين»؟ هذا العَرَض من ذاك المرض: وهن الإمبراطور­ية الأمريكية

- ندى حطيط ٭ ٭ إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

«مهزلة قوميّة». «خلاصة الخزي». «فوضى تامّة داخل مستوعب قمامة في حطام قطار». «النقطة الأدنى في تاريخ الخطاب السياســي الأمريكي». «ليلة مثيرة للغثيان». «هذه ليست مناظرة رئاسيّة بل مصارعة في الطين».

تلك بعــض أكثر التعليقات تأدبــاً في الصحافة الأمريكيّــة على المناظرة الرئاســيّة الأولى )من ثلاث( بين الرئيس الأمريكي الحالــي دونالد ترامب، ومتحديه مرشــح الحزب الديمقراطي جو بايدن. وتحدّث أحد خبراء الإعلام معلقاً: «بصفتي شهدت جميع المناظرات الرئاســيّة الأمريكيّة طوال الأربعين ســنة الماضية، وكنت حكماً في بعضها، وســاعدت أحد الُمرَشحيْن في بعضها الآخر، وغطيّت كثيراً منهــا، أقول وبكل ثقة أنّ مناظــرة ترامب - بايدن هي الأسوأ على الإطلاق».

تعليقات الجمهور كانــت لاذعة أكثر بما لا يقاس، واشــتكى كثيرون على مواقــع التّواصل الاجتماعي مــن أنّهم فقدوا الاهتمام بمتابعــة المناظرة بعد مرور ربع الوقــت المخصص لهــا )90 دقيقة(، واعترض آخــرون حتى على وصــف ما جرى بـ»المناظرة» واعتبروه إهانــة لمدينة كليفلاند - حيث جرت - وفشلاً ذريعاً لمؤسســة التلفزيون الأمريكيّة فوق فشل النظام الديمقراطيّ للدولة الأعظم في العالم. وللحقيقة، فإن ما شــاهدناه خلال بث حيّ ومباشر كان أقرب إلى مباراة سّــباب علنيّ، وبلا أي قيمة سياســية، ولم يتضمّن أيّة نقاشــات جديّة حول التحديات العديدة التي تواجهها الدولة الأمريكيّة، ولا شــكّ بأنّه لم يساعد أيّاً من المترددين في حســم خيارهم بالتصويت لمصلحة أحد المرشــحين على الآخر، كما هي الغاية من المناظرات، لا بل ولربّما ستردع المناظرة / المباراة عديدين عن المشــاركة بالاقتراع من حيــث المبدأ، كفراً بهذا الإســفاف، الذي انحدر إليه الصراع على قمّة السلطة التنفيذيًة في الولايات المتحدة.

الإعلام والإمبراطو­ريّة يداً بيد نحو الحضيض

بالطبع لم تصل مؤسسة التلفزيون الأمريكيّة، ونوعيّة الخطاب السياسيّ في النظــام الأمريكيّ إلــى هذه الرداءة في يــوم وليلة. فالعالم يشــهد منذ عدة ســنوات تراجعاً تراكميّاً ونوعيّاً في قيمة المــادة الإعلاميّة المقدّمة على الشاشــات الغربيّة عموماً، وفقد معظم الجماهير ثقته في الأسماء الكُبرى في دنيا الصحافة والإعلام، وجاء فوز ترامب بالمنصب الرئاسيّ قبل أربع سنوات - وهو القادم من خبــرة طويلة في التلفزيون - بمثابة الضربة القاضية لكل تظاهرٍ بالعقلانيّة أو الاتزان أو حتى ممارســة السياسة في أجواء نخبة دولة طالما حاضرت فــي الكوكب من أقصــاه إلى أقصاه في فضائــل الديمقراطيّة والحريّات والانتخابا­ت.

لذا فإن المناظرة وترامب وبايدن كليهما كانا تتويجاً رمزيّاً، ونهاية منطقيّة لمســار تراجع مســتمر، وتمثيلاً بليغاً لحالة الوهن الأخلاقــي والفكري التي أصابــت النخبة الأمريكيّة وتهافت قيم إمبراطوريت­ها المعولمة، واتســاع حالة الاستقطاب بين مكونات الشعب الأمريكي لدرجة الاستعداء.

وهو بالفعل ما أظهره استطلاع للرأي أجرته إحدى الجامعات وخلص إلى 74 في المئة من المواطنين كانوا يخططون لمتابعة المناظرة، منهم 3 في المئة فقط قالوا إنّ هنــاك احتمالاً لتغيير آرائهم بناء علــى مجرياتها، الأمر الذي يعني ببساطة أن الأغلبيّة الساحقة قد حسمت موقفها بشأن الانتخابات الرئاسيّة بالفعل، ولم تعــد بحاجة لمزيد من البهلوانيّات على شاشــات التلفزيون كي تنتخب في نوفمبر/تشــرين الثاني المقبل، لكنها تُقبل على مشاهدة المناظرات كما الجماهير الرياضيّة على مباريات كرة القدم: لدعم فريقها، والسخرية من الفريــق الآخر دون أي احتمال لأن يغيّر أحــد الحاضرين فريقه المفضّل أثناء التسعين دقيقة.

المناظرة المقبلة: هل يمكن إنقاذ السفينة الغارقة؟

تعرّض محّكم المناظرة المذيع المعــروف كريس والاس )قناة فوكس نيوز( إلى ســيل من الانتقادات. فاتهمه البعض بأنّه «لم يكن على مستوى الحدث» ووصفه آخرون بأنّه «الحَكَم الذي لم يكن حاضراً». لكن الواقع أن هذا الحَكَم لم يكن ليفعل أيّ شيء تجاه المهمّة المستحيلة مع متناظرين من قماشة ترامب وبايدن.

والسؤال الآن في أوســاط إعلاميي التلفزيون الأمريكي عن جدوى إجراء المناظرتين الباقيتين )15 و22 الشــهر الجاري(. إذ يــرى البعض عبثيّة تكرار «اللّيلة السوداء للديمقراطيّة» ودعا عدد من الكتّاب في الصحف إلى إلغائهما، أو استبدالهما بمناظرات عبر الرسائل البريديّة )في إشارة ساخرة إلى الجدل الواسع حول مبدأ التصويت عبر البريد( أو على الأقل تغيير قواعد إجرائهما بحيث يمتلك الحَكَمُ سلطة تقنيّة للسيطرة على المتناظرين ومنع الصوت عمّن يخرج عن الوقت / المضمون.

لكّن الأمل ميتٌ بالطبع بأن يستمع لهم أحد في صناعة التلفزيون الأمريكيّة المعاصرة، حيث جودة المحتوى هي آخر الأولويات مقارنة بنســب المشاهدة وأعــداد المتابعين وقابليّة تســجيل فيديو المناظرة على التقطيع لاســتخدام مقاطع على الشاشــات ومواقع التّواصل الاجتماعي. لــن تجد التلفزيونا­ت تسليّة للدهماء بأفضل من تبادل المرشحين لمنصب الرئاسة الشتائم والنعوت والاتهامات، ومقاطعتهم لبعضهم بوقاحة.

بدا بايدن عجوزاً متهالكاً )كلا المرشــحين في العقد الســابع من عمرهما( وظهر مبكراً بأن اســتراتيج­يته في الظهور تقوم على تجنّب الوقوع بأخطاء فادحة، لكنّه أساء عدّة مرات لرئيس الدّولة )إخرس، المهرّج، أسوأ رئيس في تاريخ الولايات المتحدّة، الدّمية في يد بوتين - الرئيس الروسيّ...(، فيما كان ترامب كطفل سريع الغضب، استمر في مقاطعة بايدن طوال الوقت والتعليق على كل شــتيمة بأفظع منها، مع التركيز علــى إظهار بايدن في صورة العاجز والضعيف، متفاخراً بأنّه أنجز في 47 شــهراً - فترة توليه منصب الرئاسة - ما عجز عن إنجازه غريمه طوال 47 عاماً خلال مهنته السياســّية الطويلة في محيط واشنطن.

ورغــم أن تقييم الجمهور مال لمصلحة بايدن - مــع اتفاق الأغلبيّة بالطبع علــى فوضوية المناظرة ككل - فإن ذلك يُحســب للأخير، الــذي كان يواجه خصماً خبيراً بمســائل الظهور التلفزيوني والاســتعر­اض وطرائق التبختر أمام الكاميرا - وهي خبرات لم تســعف صاحبها كثيراً هــذه المرّة، فلجأ إلى شدّ عصب قاعدته، التي تضيق يوماً بعد آخر، مثل جماعة العنصريين البيض المعروفــن بــالأولاد المزهوين - بــراود بويز - فرفض إدانتهــم، وخاطبهم مباشــرة أن « قفوا، وكونوا على أهبة الاســتعدا­د» وهو ما أثار غبطة هؤلاء، وفق ردود أفعالهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

ديمقراطيّة مُفلسة وتلفزيونات للتسليّة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom