Al-Quds Al-Arabi

عالم تتهدده الحروب والندرة وغياب توافقات التنافس الخيرة

- *كاتب تونسي

خلال فترة ما بعــد الحرب العالمية الثانيــة، أمكن الحفاظ على اســتقرار الأســواق العالميــة، بفعل سياســات الضبــط والتنظيم، ونتيجــة لتدخل الحكومــات الوطنية، ولنظــام عالمي قائم علــى التعاون الدولــي، في ظل ثقافات تتســم بالمرونة، وسياســات تتمتع بالكفاءة.

واليوم تضارب المصالح بين كبــرى الدول الاقتصادية، يجعل التعاون لأي غرض أكثــر طموحا من إدارة الأزمات، أمرا يكاد يبلغ في صعوبته حد المســتحيل. فلا توافق حول إحلال نظام موجــه للاقتصاد العالمي، يحل محل الســوق الحرة المنفلتة، التي تنفخ في كل مرة روحا جديدة في توافق واشــنطن. وتعيش أكبر أزماتها ضمن ســياقات الجائحة العالمية. ولا سياسات تقارب تتعلق بحفظ المناخ والتوازن الأيكولوجي العالمي، وتخفيف الاحتباس الحراري وجميع الأخطار التي تهدد البشرية.

والســعي إلى تحقيق الأرباح زمن الأوبئــة، يجعل من الصعب تصور رهان أكثر اســتهانة بالمســتقب­ل، ولا وجود لأي احتمال في المنظور القريــب لإصلاح الاقتصاد العالمي، وإحلال تــوازن اجتماعــي يُتَرجَم إلى مجتمــع التضامن والإنســان­ية الكونية. ولم يعد في وســع نُظــم الهيمنة أن تعمــر طويلا، وصار لزامــا عليها أن تختــار بين أن تقضي على نفســها في حروب، يُحرق فيهــا الأخضر واليابس، أو أن تعمل على تخفيف عمق العلاقات التنافســي­ة الشرسة، من خلال تطوير هياكل سياســية وتشــابكات اقتصادية، تجمع شــمل البلدان المعنية تحت ســقف واحد. وبدل فهم الأمور بشــكل أفضل، وإعادة اكتشاف شــكل ما من أشكال الإنســاني­ة، يتواصل التوظيف السياسي للجائحة، سبيلا لتغطية فشــل السياســة الداخلية في التعاطي مع الوباء، وخدمة لأهداف انتخابية مقبلة. ومــا تمرّ به الأمم في هذه الأزمة الكاســحة يؤكد أن الحضارة السياسية لمجتمع عالمي ينقصها البعــد السياســي الخلقي المشــترك والضروري لتكويــن جماعــة عالمية وهوية إنســانية ملائمــة. وعلى طروحات ديمقراطية عالمية السياسة أن تتبع نموذجا آخر، إذ ليس باستطاعة مأسســة عملية التفاهم العالمي الحالية، أن تُعمم المصالح المشــتركة، وأن تحفظ تماســك النســيج التنظيمــي العالمي، بوجود سياســات دولية تأتي بصورة مشوشــة كتلك التي دفعت الولايات المتحدة لتفعل ما تريد لما يزيد عن عقدين، تزامنا مع تفردها بقيادة النظام العالمي، وهي ســياقات استغلتها الصين بشــكل جيد، وتتطلع بكين منذ مدة إلى الحصول على منافع الاســتثما­رات الخارجية، بدون أن تتكلف ثمن الكراهية على المســتوى العالمي كقوة استعمارية، تلك الصفة التي ارتبطت بواشنطن وخروقاتها الخارجية، ومــا انجر عنها مــن تدمير فظيع لــدول كانت تعيش بســام. وهي تركز اهتمامها في الشرق الأوسط من خلال النافذة الإيرانية. وأبقت المنطقة على صفيح ســاخن، مســكونة على الدوام بشــبح الحروب، وبالغت في توتير الأجواء، منذ مجيء دونالد ترامب. لكي تســتفيد الشركات الأمريكية من خلال بيع الأســلحة، ودفع بعض دول الخليج للإنفاق الخيالي، في ســبيل شراء السلاح الأمريكي، وضخ الأموال في مصارفها. والســؤال المطروح متى تدرك بعض دول المنطقة أن الاحتراب الإقليمــي لا يصب في مصلحتها. والأنسب لها حاضرا ومستقبلا أن تفتح صفحات جديدة من تاريخها المشترك مع مختلف القوميات الموجودة في الشرق الأوسط، على قاعدة الحوار والمصالح المشتركة، بدلا من أن تبقى لعبة بيد أمريكا وإسرائيل وقوى غربية أخرى.

بناء ســوق حرة عالمية، تُحدِث تقدما هائلا للبشــرية، كانت نبوءات كاذبة. ومحاولــة عقيمة أجهضت فكرة عالم متعدد المراكز، تســتطيع فيه النُظــم والثقافات المختلفة أن تتفاعل، بــدون هيمنة ومحــاولات تدجــن، وأن تتعاون بدون ســيطرة أو حروب وثقافة الأوامــر الفوقية ومنطق الغاب. وإلى الآن لم يحدث شــيء من هــذا في العالم الذي ينشــأ حولنا، والذي تعمل فيه الأسواق الحرة منذ ما يزيد عن عقدين على تمزيق المجتمعات، وإضعاف الدول، بشــكل دمّــر الترابط الاجتماعي على يد المضاربين وقوى الســوق الخارجــة عن الســيطرة. ومخاطر النزاع الجيوسياسـ­ـي التي تعم عالما تتفاقم فيه أزمة الموارد، لا يمكن للرأســمال­ية العالميــة على النحو الذي تنتظم بــه اليوم، أن تكون مهيأة لمواجهتهــ­ا. ويصح ما ذهب إليه أمثال تشومســكي وجون غراي وغيرهما، من «أن الديمقراطي­ة والسوق الحرة أمران متنافسان وليســا متلازمين». فالرأســما­لية الديمقراطي­ة، الصيحــة البلهاء التــي أطلقها المحافظون الجــدد، في كل مكان لتوحيد الصفوف، انتهت إلى علاقة شــديدة التعقيد. والسياقات الآنية تُفصِح عن سياسات متقلبة لانعدام الأمن الاقتصادي.

ومنطق الغاب الــذي تحدث عنه هوبز مازال بالنســبة لغالبية البشــر واقعا يوميا قائما أو قابلا للتجســد في أي لحظة، منذ أن ارتسمت على عتبة القرن الحادي والعشرين مظاهر الرعــب، الذي يهــدد اهتمامات الحيــاة العامة في العالم بأسره، ويجسده مشــكل التسلح المنفلت، وانتشار الأســلحة النووية غير المضبوط، والافتقار البنيوي الذي تعاني منه البلــدان النامية، وفقدان التوازنات الاجتماعية ومشــاكل البطالة وتلوث البيئة، والتكنولوج­يات الضخمة التي تقارب الكارثة في عملها. وهي التعابير الأساسية التي تقتحم عبر وسائل الإعلام وعي الرأي العام. تأكيدا لتصور هابرماس من أن حيز المستقبل تشغله السلبيات. ويبدو أن مبادئ الرفاه البشــري، والسلم العالمي تتطلب حل المشكلة الهوبزيــة قبل الحديث عــن المواطنــة الديمقراطي­ة التي لا تنغلق على نفســها كجزء خاص، وتهيئــة الطريق لوضع المواطن العالمي الذي يتخذ شكلا في التواصلات السياسية العالمية. وإذا لم تحسن الدول الكبرى حساباتها. فإن سباق التســلح بأحدث المنظومــا­ت الدفاعيــة والهجومية يدفع باتجاه المزيد مــن تأزم العلاقات الدولية، بما يرجح حدوث حروب شــاملة لا تقف عند النزاعات التجارية أو العقوبات الاقتصادية.

متى تدرك بعض دول المنطقة العربية أن الاحتراب الإقليمي لا يصب في مصلحتها

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom