Al-Quds Al-Arabi

جمال عبد الناصر... غصة وذكرى وضريح

- *

كان أيلول/ســبتمبر قبــل خمسين عامًا شــهر البكاء والندم، ففيه دفع الفلسطينيو­ن ثمــن دخولهم فــي إغــواءات المغامــرة الأولــى، وفيه بكت الأمة رحيل من أشــعل حلم الوحدة المســتحيل­ة. خمســون عامًا مرّت علــى وفاة جمال عبد الناصــر، والعرب ما زالوا يعيشــون علــى أنــوف رماحهم، التــي ورثوها مــن عصور الرمل، وفي فيء عباءاتهم الرثة؛ فما يرضي زيدهم يغضب عمرهم، تماما كما نشــهد ونقرأ في هذه الأيام، وكلما كانت تستحضر ذكرى وفاة جمال «حبيب الملايين».

كنا طلابًا في الســنة الأولى في مدرســة «يني الثانوية» عندما شاع نبأ موت جمال عبد الناصر. معظم تفاصيل تلك الأيــام صارت نثارا في عالم النســيان؛ لكنني مازلت أتذكر كيف تحوّل لون الســماء فوق قريتي إلــى كحلي، أو أقرب إلى دكنة وجه من مات خنقًا. في الجو ســاد صمت رهيب، مازلت أســمع صداه حتى هذه اللحظات. وقفت مع أترابي وأذكــر كيف أحسســت، ولم أعــرف وقتها لماذا، بدهشــة مَــن انشــقت الأرض تحت قدميــه فصارت هاويتــه كالقدر المحتوم.

لم أكن مسيّســاً ولا من بيت ناشــطين حزبيين؛ فوالداي كانــا معلمين ينتميان لجيل آمن بمهنــة التعليم ،واعتبروها

رســالة مقدسة، فمارسوها لينشئوا أجيالًا حصينة ونقية، ولكي ينقذوا الناجين من لعنة النكبة والتهجير، ويخلصوهم من مشــاعر الــذل والهزيمة؛ زرعــوا فينا، بحنكــة الحكماء والصبورين، بذور الكرامة والشــغف الكبير للمعرفة وكنز القناعــة والاكتفــا­ء، إلا من كل ما يســلب حرياتنا ويجوّف أرواحنا ويعطل عقولنا. علّمونا كيف نكره الظلم والظالمين، وكيف نحــب الخير والغيــر والصالحين؛ ففــي ذلك الزمن ذي اللونين عشــنا في عالمين وحســب: واحد أســود، يلفه ظــام لعين ويحكمه الأشــرار والعابثــو­ن، وآخر أبيض من نــور مبين ويديره الطيبون والخيرون. لم أكن منظمًا في أي حزب، لكنني كنت ابن والديّ، وفرخًا لجيل احتضنته قرية كانت تزودنا بأشــرعة من طيب وريح؛ فكبرنا في حضنها وعلّمتنــا، كفر ياســيف الجليليــة، كما علّمت مــن قبلنا مَن جاوروا النســور والقمر، نعمة التمرد على الســائد الآســن وعلــى طقــوس الخنوع؛ ودرّبتنــا كما تــدرّب الأم صغارها علــى فنون العيش والبقــاء، وعلى الفوارق بــن علم البيان وفنــون الخطابــة، وبــن تشــييد البنيــان وأصــول الزرع والحصــاد والحطابة. انطلقنا من صفوفنا الخشــبية نحو ساحة القرية القريبة، وســرنا، طلابًا وكادحين وفلاحين، وراء «كبارنــا» فــي جنازة لم نكن نعرف وقتها، أن المشــيّع فيهــا ليس «أناناتنــا» الفردية والجمعية الثاكلة وحســب، بــل، هكذا تبين بعد انجلاء الغيم والغبــار، أننا دفنّا، ومعنا معظم العــرب «عنقاءنا»، رغم اقتنــاع البعض بأن ليس كل الأساطير محض خيال!

مازالت الذكرى تثير في نفســي ونفوس الكثيرين حنينًا وطربًا دفينــن، فبدونهما تصبح الخيبــات قواقع لليأس، ويفقد الإنسان «نونه»، ولا يبقى منه إلّا «الأسى» لعنة. ولكن بــن تنفس الذكرى كنســمة في حرير الحنــن، ومحاولات البعض إقناعنا بأن الناصرية مشروع حي ونابض ومتقدم على خطى ذلك المارد العربي، الذي نمنا على حفاف جفونه الثائــرة، يوجد فرق كبيــر وخلاف يتوجــب علينا التوقف عنده، إذا مــا أردنا أن نبقى ابناء الحيــاة، ونعبّد من اجلها الســبيلا مهما كان عســيرا. قرأت مــا كتبــه «الناصريون» وشــعرت بجمراتهــم المتقدة فــي صدورهم، وقــرأت ايضا لمن يمضغون الناصرية كالقات، ادعــاءً ووهماً ومزايدات،

وأثارنــي بعض من يهاجمون الرجــل وزمانه، وكأنهم على ميعــاد ثــأر معه. لجميــع من كتب وســيكتب الحــق بإبداء رأيــه حــرًا، ولكــن من بين مــا قــرأت، لفت نظــري اعتراف النائب أيمن عودة، كما نشــره على صفحته وقال: «لم يؤثر بمشــاعري أحد مثــل جمال عبــد الناصر حتى هــذا اليوم، فخمســون عامًا على وفاته ومــا زال الأكثر حياةً». حاولت أن أفهــم قصده مــن وراء هذا الاعتراف المثيــر، لكنني تهت في ثنايــاه، ولم يعفني عبء الالتبــاس؛ ورغم اقتناعي بان كلام النائب عودة، رغم تأويله المحتمل وأبعاده السياســية الكبيــرة، يندرج في بــاب الحنين، واســتذكار موجع لحلم كان قد وئد، ســيتيح، كلامه، فرصًــا لمن يعارض طروحاته الــواردة في سلســلة مقالاته الأخيرة، التــي حملت عنوان» نحو منهجية مثابرة لشراكة يهودية عربية مؤثرة»، خاصة إذا ذكــرّوه بأهم ما بقي عالقًــا في عقول العامة من موروث ناصري، تختزله مقولته المجلجلة «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقــوة». نحــن بحاجة إلــى وضوح فــي رؤى القيادات المحليــة السياســية، خاصة وفضاءاتنا العامة وشاشــات حواســيبنا وهواتفنا، تعج بمــا يغرق الناس فــي متاهات وترهات ومزايدات وترددات من كل الجهات والمنابر؛ فمن يقرأ ما كتب عــن جمال عبدالناصر، معه وضده، يســتنتج أن هنالك بلبلة كبيــرة بين المعلقين والمعقبين، وهنالك أيضا قطيعة واضحة بين هذه الأجيــال وزمن الناصرية الذهبي؛ ويســتنتج أيضًا أن معظم من عبّروا عن مواقفهم، كانوا قد لقنوها أو هندسوها بتأثير تنظيماتهم الحزبية وحركاتهم الدينيــة والسياســي­ة، ومــن دون محاولــة ربــط مواقفهم بواقعنــا الحالي، نحن المواطنــن العرب في إســرائيل، أو إجابتهــم علــى الســؤال الأهم: مــا دور «الناصريــة» اليوم وعلاقتها ببرامجنا السياســية وبوســائل نضالنا؟ وكيف يمكن تجنيدها في مواجهة المخططات التي ترسمها حكومة إســرائيل وتنــوي تنفيذهــا بحقنــا؟ جميــع هذه الأســئلة بالنســبة لي هي أســئلة اســتنكاري­ة، أما من يحســبها غير ذلك، فعليه رسم الإجابة.

مازلــت أذكر كيــف بكيت فــي أول زيارة لــي إلى مصر؛ فعندمــا بــدأت مباني القاهــرة تضحك أمامنــا كلما اقترب التاكسي من مشارفها، شعرت بأنني أدخل الجنة.. أضعت قلبي، كما أضاعه «عزيزهــا»، وكدت مثله «من بهجة اللقيا ونشوتها، أرى الدُنا أيكةً والدهر بستانا». وأذكر أيضًا أننا طلبنــا، قبل الوصول إلــى الفندق، أن نــزور ضريح الزعيم جمــال عبد الناصر. تســمّرت فــي حضن الهييــة المدفونة. حضرتني مشــاهد الجنازة التي أقمناها في كفر ياســيف، والأغاني التي حفظناها فــي «صاحب الصورة» ورددناها في شــبابنا، أســوة باغانــي العشــاق وتباريحهم من حب وجوى؛ وســمعنا صوت نزار قباني يتمتم: «قتلناك يا آخر الانبياء قتلناك».

أكلتنا الحســرة ونحن أمام القبر، الذي يشهد على جهل أمــة وعلى ضياع أحلامهــا، ويبكي على رجــل كاد بإيمانه وبعزيمتــه أن يقبــض على شــرايين القــدر، ويقــدم دماءه أزاهير لشــعوب أحبها حرة، لكنها نخت تحت أوزار جهلها وعطلهــا الخنــوع، حتــى باتت لا تفــرق بين أطــواق تدمي رقابها ومعاصمها، وأطواق النجاة والنرجس.

أحببنا ناصرنا بعيدًا عن التفاصيل الخاصة في سنوات حكمه، التي بســببها اختلف ويختلــف الفرقاء عليه ومعه؛ وســنبقى نحبه كعطر لــوردة خالدة، فهو القائد الشــجاع الذي أراد أن يصهــر المعجزات كي يقهر الأعداء، ويزرع في بلده المستقبل الآمن؛ ولأنه ابن الحتة، المؤنس الأسمر، الذي جاء مؤمنًا بالإنسان العربي وبعزيمته، ومصممًا على بناء دولــة عصرية يحكمهــا القانون وبأدواتــه، أو كما قال فيه أحمد فــؤاد نجم «فلاح قليل الحيا، إذا الكلاب ســابت، ولا يطاطيش للعدا، إذا الســهام صابت، عمل حاجات معجزة، وحاجات كتيــر خابت، وعاش ومات وســطنا، على طبعنا ثابت».

زرت بعدها مصر عدة مرات، ولم أعد لزيارة ضريح عبد الناصــر؛ فمصر التــي زرناها بعد المرة الأولــى لم تعد «تلك التي في خاطري»، والضريح صار معلمًا سياحيًا وشهادة على قســاوة القدر الذي أراد ناصر أن يقدمه لأبناء شــعبه ضمانة لحريتهم ولكرامتهم، فرفضوه وبقوا كما كانوا من ايــام «مينا لأيام عمرو» ومن أيام عمرو إلى أيام ســلطان.. وتبقى الناصرية غصة وبرقة وسرابًا..

ضريح عبدالناصر صار شهادة على قساوة القدر الذي أراد ناصر أن يقدمه لأبناء شعبه ضمانة لحريتهم ولكرامتهم، فرفضوه

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom