جيوش منفصمة ومؤسسات متهالكة... فخاخ التخلف والتبعية!
يرفــض الرئيــس ترامــب أن يتعهد بتنازل ســلمي عــن الســلطة، في حال خســارته للانتخابــات أمام منافســه بايدن، للوهلة الأولى تخيلت أن الأمر لا يعدو خبراً مصطنعاً أو نكتة، ومع أن كثيرين اســتنكروا تصريحات الرئيس، إلا أن بعض المختصين أبــدوا تخوفهم من تصرفات الرئيس غير المنضبطة. في حال فــوزه في الانتخابات التي ســتقام بداية شــهر
نوفمبــر المقبل، فإن جــو بايدن لن يصبح رئيســاً للولايات المتحدة، إلا في العشــرين من يناير العام المقبل، والأســابيع التي تفصل بين الانتخابات، ودخول البيت الأبيض ســتكون مسرحاً لاســتعراضات ترامب وتشكيكاته، وربما استعداؤه لمناصريه مــن المتعصبين البيض، الذين ظهروا في شــوارع بعض المدن في مظاهر مســلحة. ربما تشهد الولايات المتحدة أياماً عصيبة، وربمــا تحدث بعض المناوشــات هنا وهناك، ويمكن أن تتجنب كل هذه الاحتمــالات في حالة فوز ترامب، وهو أمر وارد، ولكن وفي وســط كل الجدل السياســي، فإن أحداً لم يظهر ولو قلقاً طفيفاً من الجيش الأمريكي الذي يعتبر ترامب صاحب صلاحيات كبيرة داخله بحكم موقعه رئيساً.
الجيوش لــم تعد مصدر قلق أو تهديد فــي الدول المتقدمة سياســياً، والمــرة الأخيرة التي حــاول فيهــا أحد جيوش الديمقراطيات الغربية التدخل لتغيير الواقع السياســي كان في إســبانيا، مطلــع الثمانينيات من القــرن الماضي قبل أن تتعافى إســبانيا من حقبة الديكتاتور فرانكو. أي ســيناريو شــبيه في آســيا وافريقيا كان ســيحول الأنظار تلقائياً إلى مؤسســة الجيش، فالجيوش إلى اليوم لم تستطع أن تتوقف عــن تدخلها في الشــأن السياســي، ولا يعبر ذلــك عن قوة الجيش بقــدر ما يظهر تهالك المؤسســات الأخــرى، خاصة مؤسســتي القضاء والتشــريع، لذلك فالقصة تبدأ في مكان عميق من تاريخ تشــكل الدول في العالم الثالث، ففي المنطقة العربية وفــي الدول التــي تعرضت لاســتعمار تقصد بناء مؤسسات إدارة وتســيير مثل شمال أفريقيا ومصر والعراق والشــام، بدأت الجيوش تؤدي دوراً وظيفيــاً ينطوي على انفصام في سلوكها تحول إلى تشوه جذري.
يبــدأ التشــوه مــن طبيعة تأسيســها الحديــث من قبل القوات المســتعمرة، التي كانت تتعامل مع الطبقة الوســطى لتغذي حاجتها لجيوش تســاندها في حروبها داخل القارة الأوروبيــة، ويذكــر أن عملية التجنيــد التي مكنــت أبناء البســطاء مثل جمال عبد الناصر مــن الالتحاق بالجيش في مصر، بعد أن كانت تغذيته من الأرســتقراطية على مستوى الضباط، والريف على مســتوى الجنود، كانــت تتزامن مع مرحلة ما بين الحربــن العالميتين. في المقابــل، كان الضباط الشباب يستشــعرون حنقاً وطنياً تجاه الاستعمار كله، ومع خروج الاســتعمار التقليدي وتراجع أهمية وجوده المباشر وارتفاع تكلفته بشــكل كبير، بقيت الجيوش وأخذت تتحرك لتحصل على دور، وفي مصر، تمكن الجيش من الانقلاب على الملك، في حركة وصفت بالمباركة، ثم أخذت الأدبيات الإعلامية الموجهة تطلق عليها تســمية الثورة، على أساس أنها عبرت عن الشعب وطموحاته، وإلى حد ما كان ذلك صحيحاً، ولكن الاستعلاء العسكري أبقى على فكرة الوصاية على الشعوب، فهي شــعوب غير واعية وغير مؤهلة، أي أن الجيوش طبقت الادعاء الاســتعماري نفسه على شــعوبها. من يتابع خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، سيتلمس هذه العقلية في نبرته الوصائيــة، وإصراره على صواب ما يفعله، وعدم قدرة القطاع الأوســع من المصريين علــى فهمه، فالرئيس هو القائد الذي يحتكر تحديد الأولويــات وتوجيه الموارد، وأي نقاش أو حوار حول هذه الرؤى يعتبر تطاولاً لا يمكن قبوله، وداخل العقلية العسكرية تتضاءل المعارضة إلى الحد الأدنى،
أو تتلاشــى تماماً. مع كل ذلك، قطاع عريض من الناس مازال يؤمن بالحكم العسكري، ويراه خلاصاً، وأساس هذه القناعة يتجذر مع كل حكم قضائي فاسد، ومع كل تقصير من السلطة التنفيذيــة، ومع كل تهريج يعتري أعمــال المجالس النيابية، فلا يوجد شعب يســتعذب وجود الحكم العسكري بقسوته وضيقــه بالحرية والنقاش، ولكن الإنســان الذي ســحقته الشــرطة، ولم ينصفه القانون، وأتت منظومة المحســوبية والقرابة لتبــدد فرصه في الحياة، هو الذي ســيعانق فوهة المدفع ويقبل جنزيــر الدبابة. لن يتدخــل الجيش الأمريكي لأنه مؤسســة بين المؤسســات الأخرى، أو للدقــة، أداة بيد المؤسســات، أما الجيوش في كثير من دول العالم الثالث فهي مؤسسة كبرى ومتسلطة، تعتبر نفســها طرفاً في كل شيء، وكم تغذت بجانب تشوه شخصيتها وانفصامها على اختلاق أعــداء وهميين في الخــارج والداخل، لتبريــر حالة التأهب المستمرة التي تعيشها وتفرضها على الجميع.
حتى الأنظمة الوراثية تمتلك بعضــًا من المعقولية مقارنة بالجيــوش، فيمكــن أن تحظــى بعــض الشــعوب بوريث اســتثنائي بين فترة وأخــرى من الزمن، ويمكــن أن تتطور من الداخل، وأن تدخل في تداول مع الشــعوب والمؤسسات الأخرى لتقييد وتحديد أدوارها مع الوقت في صفقات كبرى، تضمن الاســتقرار والكرامــة للجميع، أما الحكم العســكري فيبدو مفتقراً لكل هذه الاحتمالات.
فكرة وصاية الجيش على الشعوب، باعتبارها غير واعية وغير مؤهلة، أي أن الجيوش طبقت الادعاء الاستعماري نفسه على شعوبها