Al-Quds Al-Arabi

الاحتجاجات في العراق ورهان المستقبل

- *كاتب عراقي

تمر هــذه الأيام الذكرى الســنوية الأولى لاحتجاجات تشــرين الأول/ أكتوبــر، وقد كتبنا فــي صحيفة «القدس العربــي» أكثــر مــن مقــال حاولنــا فيــه تحليــل هذه الاحتجاجات، وســنحاول في هذه المقالة استذكار أهم ما جاء في هذه المقالات، مع استشــراف المآلات التي يمكن أن تفضي بها، واليها.

بعد يومين من انطلاق حركــة الاحتجاجات، وفي مقال بعنــوان «الغاضبون والمغضوب عليهم ومــا بينهما» قلنا إن الغضب، والإحساس باللاعدالة، يشكل العامل الحاسم في حركة الاحتجاجات الواســعة التي انطلقت في العراق من ســاحة التحرير في بغداد، وامتد زخمها إلى محافظات الوسط والجنوب، وازدادت حدتها بعد العنف المفرط الذي اعتمدته القوات الأمنيــة في مواجهتها؛ العنف الذي وصل حد اطلاق قنابل الغاز المســيل للدموع بشكل مستقيم بنية القتل المتعمد، و ســاهمت خطابات الشيطنة التي مارستها أجهزة الإعلام الرســمية والخاصة في استمرارها وقوتها. وأشــرنا أيضا إلى أن الشــباب الذين شــكلوا عصب هذه الاحتجاجات، أدركوا أن فساد الطبقة السياسية، والفساد البنيــوي للدولــة عمومــا أدى إلى حرمانهــم، وحرمان العراقيين جميعا، من المشــاركة في الريع الذي يســتحوذ عليه الآخــرون. وقد اختصرت عبــارة «نريد وطناا» ذلك ببلاغة. لكننا حذرنا أيضا مــن أن هذا الغضب الذي يفتقد لبعض الوعي السياســي الذي يشخص أســباب الأزمة، ويضع معالجات لهــا، قد يفضي إلى النهاية نفســها التي تعرضت لها حركات الاحتجاج السابقة. وقد ختمنا المقالة بالقول إن أعداد المشــاركي­ن لم تصل حينها إلى الحد الذي تشــكل معه تهديدا حقيقيا للسلطة، وإلى أن تصاعد حركة الاحتجاجات، انتشــارا وعــددا، قد يؤدي إلــى المواجهة مع أطراف ذات طبيعة إشــكالية، مثل الفصائل المســلحة المرتبطة بإيران!

وفــي مقال بعنــوان «الإصلاح المســتحيل في ســياق الفســاد»، نشــر يوم 17 تشــرين الأول/ أكتوبر، قلنا إن الإجراءات التــي أعلن عنها كارتل الســلطة/ الدولة، فيما بدا وكأنه اســتجابة لمطالب المحتجين، لم يكن سوى إنشاء سياسي! وأوضحنا حينها ان هذا الكارتل لايزال مصرا على دعم الفساد والفاســدي­ن، وأن ثمة يقينا لدى الجميع أن لا إمكانيــة حقيقية للإصلاح، وأن بنية الفســاد المتحكمة قد ابتلعت الدولة بالكامل!وفي مقال نشــر قبل انطلاق الموجة الثانية من الاحتجاجات بيــوم واحد، تحدثنا عن الاتفاق المســبق هذه المرة على موعدها، ردا على القسوة المفرطة، الذي وصل حد الإعدامات الميدانية ضد المحتجين، لاســيما

بعد النتائــج الهزيلة للجنة التحقيق التي شــكلها رئيس مجلس الــوزراء عادل عبد المهدي حينهــا، التحقيق الذي لم يفض ســوى إلى محاولة صريحــة للتدليس والتغطية على الجرائــم والانتهــا­كات التي حدثت، أكثــر من كونه محاولة للكشــف عن تلك الجرائم! وانتهينا إلى انه في ظل حالة الانســداد السياســي القائمة تبدو إمكانية المناورة محدودة لدى الطرفــن؛ المحتجون والدولة، وهو ما يجعل الأمور مفتوحة على جميع الاحتمــال­ات! خاصة مع حقيقة اســتحالة الإصلاح بســبب طبيعة والطبقة السياســية القائمة وبنيتها، ومع حالة الغضب والإحباط التي تسيطر على المجتمع العراقي ككل، والرفض الذي أظهره المحتجون للطبقة السياســية، والذي تجاوزها ليطال إيران والقوى المحسوبة عليها، وهي القوى التي كانت إلى وقت قريب، لا تنعت إلا بالمقدسة.

في 14 تشــرين الثانــي/ نوفمبر، وفي مقــال بعنوان «حركة الاحتجاج والتواطؤ الدولي»، وبعد سقوط ما يزيد عن 330 ضحية، وأكثر مــن 15 ألف مصاب، قلنا إن المجتمع الدولي تواطأ مع ممارســات الســلطة في العراق وسكت عن اســتخدامه­ا للعنــف، وعن ممارســات التضييق على الحريات العامة؛ إذ لم يصدر عن الأمم المتحدة شيء يتعلق بالاحتجاجا­ت إلا بعــد مرور 7 أيام علــى انطلاقها، وبعد مقتل أكثر من 150 متظاهرا، وإصابة أكثر من 5000! وحديث وزيــر الخارجيــة الأمريكي مــع رئيس مجلــس الوزراء العراقي بعــد الموجة الأولى للاحتجاجــ­ات، لم يخرج عن الحديث الدبلوماسـ­ـي حول التظاهرات السلمية بوصفها عنصرا أساســيا في كل الديمقراطي­ات، مع إدانة خجولة لما أسماه «أعمال العنف الدامية في العراق»، ودعوة للحكومة العراقية بممارســة أقصــى درجات ضبــط النفس، وإلى محاســبة من ينتهكون حقوق الإنسان! ورغم تغير اللهجة الامريكية قليــا بعد الموجــة الثانية مــن الاحتجاجات؛ حيث شــككت بنتائج لجنة التحقيق ووصفتها بأنها تفتقر إلى «المصداقية الكافية»، لكنها في الوقت نفســه، صرخت بدعمها «للمؤسســات العراقية »! وتغيــر الموقف الأمريكي بشكل لافت بعد ذلك، حين اتجه إلى محاولة استثمار حركة الاحتجاج في سياق صراع الولايات المتحدة مع إيران!

أما الدول الاوربية، فلم تبد اهتمامها الطبيعي في هكذا وضع، بما يحصل في العراق من انتهاكات لحقوق الانسان وجرائــم ضد المحتجــن الســلميين. وقد حكــم التواطؤ الصريح موقف الاتحاد الأوروبي أيضا.

اما بعثة يونامي، فقد ظلت حريصة على منهجها في عدم إغضــاب أحد، وبدت الممثلة الخاصة للأمين العام أقرب إلى الناطق الرسمي باســم الحكومة العراقية، منها إلى ممثلة للأمم المتحدة فــي حديثها عن أن «إغــاق الطرق المؤدية إلى المنشــآت النفطية أو الموانــئ أو التهديد بإغلاقها يكبد البلاد خســائر بالمليارات!» أوحين قدمت مبادرة اعتمدت فيها وجهة نظر الحكومة العراقيــة أكثر من اعتمادها على مطالب المحتجين!

بعد مــرور ما يقــرب من شــهر ونصف علــى انطلاق الاحتجاجات، وفــي مقال بعنــوان «الاحتجاجات وحالة الانســداد السياســي» قلنا إن ثمــة حالة من الانســداد السياســي المســتعصي­ة، وذلــك بســبب تمســك الطبقة السياســية بالســلطة ورفض تخليها عــن هيمنتها على الدولة ومؤسساتها، وســعيها للمماطلة من خلال الرهان على فقدان الحركة الاحتجاجية زخمها مع الوقت ومع المزيد من القتل والتهديد والضغط. وتســلل فكــرة أن أي تغيير في الوضع القائــم، للحكومة وللبرلمان معــا، يمثل انزلاقا إلى الفوضى واللادولة! في المقابــل كانت قوى الاحتجاج تحافظ على زخمها بوتيرة متصاعــدة، بعد انضمام طلبة الجامعات، وطلبــة المدارس اليها، ومــع صحوة النقابات التي أكدت أنها جزء من هذا الحراك.

وقد طرحنا في هــذا المقال خارطة طريــق تعتمد ثلاثة مبادئ رئيسية؛ اســتقالة او ســحب الثقة عن الحكومة، وتشــكيل حكومة مصغرة مؤقتة بمهــام محددة )تصريف الأمور اليومية، وتشكيل مفوضية انتخابات مهنية مستقلة حقيقة، وإصدار قانون مؤقت للانتخابات(، وحل البرلمان لنفســه والذهاب إلى انتخابات مبكرة. وهذا التسلســل، الذي يتفق تماما مع الدســتور، كان سينتج مخرجا لحالة الانسداد السياسي القائمة.

وبعد اســتقالة حكومة الســيد عادل عبــد المهدي، قلنا في مقالة بعنــوان «عندما يســتمر الالتفــاف على حركة الاحتجــاج»، إن ثمة محاولة منهجية من كارتل الســلطة/ الدولة في العراق لتســويق فكرة أن هذه الاستقالة كافية لتلبيــة طلبــات المحتجين، وكأن المشــكلة التــي أخرجت هؤلاء المحتجين إلى الشــوارع، وجعلتهم يدفعون فاتورة دم حقيقية، كانت متعلقة فقط بمجلس الوزراء، وليســت مشــكلة جوهريــة تتعلــق بالنظام السياســي نفســه، وبالســلطة ككل، والتي مــع كل ما حــدث، حاولت تثبيت نفســها عبــر محاولة تشــكيل وزارة جديــدة، بالطريقة نفسها التي تشــكلت بها الوزارة المستقيلة، من أجل خداع الجمهور، عبر «ســلق» قانوني الانتخابــ­ات، والمفوضية العليا المســتقلة للانتخابات، مــع أن القانونين، بالنهاية، يخدمان مصالح الفاعلين السياسيين الأقوى، ولم يهتم أحد

من الفاعلين السياسيين بخطورة الأزمة الحاصلة.

وفي مقــال آخر نشــر بعنوان «حركة الاحتجــاج والحاجة إلى القيــادة » قلنا إن حركة الاحتجاج التي نجحت نجاحا باهرا، وغير متوقع، اعتمادا على الكتلة الصلدة التي أدامتها، على الرغم مــن فاتورة الدم الغالية التي دفعتها في سبيل ذلك، تعاني من معضلة القيادة وهو عامل حاســم في تحويل هذا الحراك إلى فعل سياسي قادر على الوصول إلى أهدافه. فمن دون تقنين حركة الاحتجاج، من خلال إيجاد قيادة تدير الحوار مع النظام السياســي، يمكن للفصائل السياسية الأكثر تنظيما المشاركة في حركة الاحتجاج واســتثمار­ها لمصلحتها الحزبية بشكل صريح أو أن تبقــى حركة احتجاج «طوباوية» قــادرة على إدامة نفسها، ولكنها في الوقت نفسه عاجزة عن تحقيق أي هدف من أهدافها الجوهرية.

وفي مقال نشــر بتاريخ 6 آب/ أغســطس 2020 بعنوان «عــن الانتخابات المبكرة التي لن تحــدث»، جزمنا بان أي الحديث عن انتخابات مبكرة في العراق هو حديث خرافة، وأن الســلطة/ الدولة تمارس الخداع في هذه المسألة، وإن شكل ذلك المطلب الرئيس لحركة الاحتجاج، ذلك أن كارتل الســلطة حرص على ضمان التزويــر ، وهو عكس مطلب حركة الاحتجاج بضمان انتخابات نزيهة وشفافة!

اليــوم، ومع الذكــرى الأولى لحركــة الاحتجاج هذه، يبدو الوضع أكثر التباســا في ســياق العجز عن الذهاب الى مواجهة صريحة بين الدولة والدولة الموازية، بســبب الغطــاء السياســي والحصانــة التي يوفرهــا الفاعلون السياســيو­ن الشــيعة المحتكرين للقرار السياســي لهذه الدولة الموازية، فضلا عن الوضع الاقتصادي غير المسبوق الذي وصل إلى حــد العجز عن دفــع الرواتب الحكومية، وتشــبث كارتل الســلطة/ الدولة بامتيازاته، وفســاده، واستثمارات­ه في المال العام، وزبائنيته، وبوهم القوة التي يمتلكها!

تبدو حالة الانسداد السياســي هذه اليوم، أكثر قتامة مما كانــت عليه لحظة انطــاق الاحتجاجــ­ات، وبالتالي يبقى الرهــان على الشــعب وحده، وعلــى المحتجين من الشابات والشباب الذين قدموا صورة ناصعة للشجاعة، والتضحية، ونكران الذات، والوعــي، والمطاولة، من أجل تغيير المعادلة القائمة وصناعة هوية وطنية مفقودة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom