Al-Quds Al-Arabi

سيرة الأهوال كما رواها كفيفٌ مغربي

«نافذة على حياتي»

- ٭ شاعر مغربي

يُـــجنس الكاتب محمد بن إدريــس بلبصير عمله «نافذة على حياتي» (2020( بصريح العبارة في خانة )ســيرة ذاتية( ويضــع توطئة هــي بمثابة مصالحة أولية مع النفس، وإقرار لاتفاق مبدئي، وميثاق قرائي وأخلاقي في آن، بينه وبين المتلقي ســيكون عبئا على مواضعــات القراءة وبنــاء النص؛ فهو وجد نفســه «مُتورطا» فــي عمل كان يتبــرم بــه أو يزدريه، لأنه كان يرى نفسه مثل ســائر الناس عانى ما عانوه، ولا يريد أن يجعل من هذه «النفــس الوضيعة» موضوعا يســتحق أن يُكتب فيه. غير أنه أقدم على العمل تحت رغبة من الأقرباء تطالبه بإنجازه «بمحاسنه ومثالبه» والذي حمله أكثــر على إنجاز العمل والخوض فيه هو شرط «الصدق» حسب مفهومه له؛ إذ لا يعني به صدق الخبر وحسب، بل كيفية تحليل عناصر النفس، بعد أن يعود إليها، وبعد أن يكــون الحدث قد مضى، وتجاوز هو نفســه ضغط المعاناة الحســية الظاهــرة، حتى إن اضطــره الأمر أحيانا إلــى «التعرض لجرح بعض الناس» ممن عاشــوا في محيطه وتأثر بهم على نحو من الأنحاء.

وإذن، فإن المؤلف يصارح قارئ السيرة بأنه يلتزم الصدق والأخــاق، وأنه يقول الحقيقــة التي عاناها وكابد أطوارها باعتباره بطل هذه السيرة، ولم ينتبه إليها إلا بعد فترة من الزمن. بيــد أنه لن يتولى العمل إلا بالحكــي والإمــاء، أما كتابته فقــد تولاها «بعض الفضلاء» وهو ما يُقدم فرضية أولوية الســرد/ الحكي على قيمة الكتابة/ النص كتجــل خطابي مخصوص، وبالتالي يُفسر حضور الارتجال الطبيعي والنأي عن الزخرفة في القول والتصوير إلا في ما ندر.

انجراح الوعي

يعود الســارد إلى الطفل الذي كانه، بعد أن شارف السبعين من العمر. يعود إليه بعدما عرفه حق المعرفة وســمع صوته بدقة واضحة، ولكن يُؤْثر أن يســتثير فترة ما قبل النشــأة الأولى، ويقدم مشاهد قاسية من بدايات القرن العشــرين، تكشــف عن جمود التقاليد وأعــراف المجتمــع القبلــي - الذكوري، التــي ظلتْ تتوارث من جيل إلى جيل تحت وطأة الجهل والأنانية والضياع والقهر الاجتماعي، وقمع المستعمر الفرنسي: يحكي عن الجدة خديجة التــي اختطفت وهي صبية، وعن أبيه إدريس الذي كان مزواجا مطلاقا، وصاحب طبع حاد وأنانية مســتحكمة، وعن أُمــه التي أُكرهتْ على الزواج وهي قاصــر، وحاولت الانتحار للخلاص من أذيته. وفــي رحم هذه الأم عانى ممــا كانت تلقاه منه قبل طلاقها منه، ولا يذكر شــيئا ذا بال عن نشأته الأولى حتى أفاق وعيه الناشــئ على حدثين مُفْجعين: حدث موت جدته لأمــه، التي أرضعته ورعت خطواته الأولى بعد انفصال أبويــه؛ وحدث اختطافه بعد ذلك تحت نوبة الصراخ الشــديد، ليقتلع من بيت طفولته الأولى ويعيش في كنف جدته لأبيه، التي ســرعان ما تحولتْ بفضل وشمها وغنائها بالعربية والأمازيغي­ة، وســلوكها وعبادتها وعطفها الشديد عليه، إلى مصدر قوي الأثر والفعل في نفس الطفل ومُخيلته حتى نسي كل شيء وانسلخ من الماضي كُله.

لكن حــدث فقدانه البصر وهو ابن الخامســة، كان هو الابتلاء الحقيقي الــذي أصابه وغير عالمه إلى غير رجعة؛ إذ قلب حياته الناشئة رأسا على عقب، وسرق منه روح اكتشافه العالم الذي كان يحيط به، ويستمتع بألوانه ومباهجه: «أسمع ذلك الطفل الذي لم يتجاوز الخامســة من عمره، والذي فقد البصر في لمحة بصر. والذي تنوعت ألوان شقائه، والذي أعرفه حق المعرفة، وأتحدى من يعرفه أكثر مني.» وقــد انطفأ نور عينيه على مشــهد دم الكبش/ الأضحية في يــوم عيد وهي تشخب دما، حين خرج بأحشائها إلى الغدير لتنظيفها حتى زلتْ به قدماه في الماء الملطخ بكل أوســاخ أكباش الحي الســكني، وسقط على وجهه : «فصاحت النسوة وفزعت جدتــي فأخرجتني بعد أن غرقت بكاملي، وأنا أبكي بصراخ شــديد فحملتني على ظهرها وغيرتْ لي ملابســي، فنمتُ ظهر ذلك اليوم الذي كان في الحقيقة مَغْربا لا ظُهْرا». ازداد تعلق الطفل بجدته «الموشومة» حين رأى كيف نذرت نفسها وتحملت كل شيء من أجل معافاته، لكن السبيل الذي ســلكته بين راقٍ ومُشَعوذٍ كان بمثابة القضاء المبرم، ولم يجد الأطباء الذين حُمِل إليهم شيئا يصنعونه فيئسوا من عودة البصر إليه.

المــرض والجهل والفقر؛ ظلمات ثــاث خيمتْ على نفسية الطفل وجعلته يئن ويعاني اكتئابا، مع عجزه عــن إدراك الأمــور في حقائقهــا: «كانت تلــك الأيام التي لا أدري عددها، محطة اســتراحة ومدرسة تأمل بالنســبة لي، وقد علمت علم اليقين أني دخلتُ في ليل لا صباح بعد». وقد اســتعاض عن غياب البصر، وعن وحشة الإقامة في ليل أبدي، بحضور المخيلة وتنشيط الحافظة، وتكونتْ عنده مهارة في تمييز الأصوات، أو الأشــياء بعضها من بعض بطريق اللمس، وهو يدلف إلى الحياة الجديدة ومقتضياتها، التي ربتْ فيه - مع ذلك- الشعور بالعزلة، وبتهكم الأطفال منه وشفقتهم عليــه، إلا أنه وجد فــي أحــام اليقظة بعض العزاء.

وقد أظهر فــي أول عهــده بالكتاتيب قــوة الحافظة وســرعة البديهة، غير أن ســلوك الفقهاء الأربعة ممن تلقى عليهم تباعــا قراءة القرآن وحفظــه، كان جافا وقاسيا كشــأن التعليم التقليدي في تلك الأيام؛ فرغم إخــاص بعضهم وتفانيه في أداء رسالته، إلا أن البعض الآخر كان متشبعا بمنهجية فيها الكثير من الجهالة، وكان يتعاطى الشــعوذة والدجل. وقد أورثوا في نفســه جروحا مزمنة، وكان الأب نفســه يُعينهم علــى إيذائه: «ففي أقل الأخطاء يصب علــيّ من عصاه ما لا أطيق. لا ســبيل بي إلى الرأفة في قلبه. رِجْلاي ويداي ووجهي في خدش وجرح مستمرين». والأدهى أن الفقيه لـما سمع ســخط الجيران، أو لوم بعض أصحابه مما يجري، يقول: «حتى أبرئ ذمتي أمام الله .»

أنهــى الطفــل الضرير حفــظ القرآن الكريم في أقل من ثلاث سنين، واستغنى عــن المســاعد، وشــعر بأنــه يحطــم قضبان القفص، بل تولد عنده الشــعور بالتعويــض والتســامي أمــام واقعة احتقار الغلمان له، أو الشــعور بالغرور وزهوة النفس وهو يرى الناس يُلقبونه بالفقيه، كما تبدلــت العلاقة بينه وبين امرأة أبيه من ســيطرة واســتعباد إلى صراع متكافئ. مضى في الدرس لنفسه، وأقبــل علــى متــون الفقــه والتجويد والنحو وحفظ منها بعض الأشعار التي تتضمنها. وضدا على رغبة الأب الذي يريد أن يجعل منه مُعلم صبيان في الكتاب، بل ـ على لسان السارد- «جلادا للأطفال، أو قارئا في المقابر، أو مدعوا للولائم ليتمتع الجُهال بحسن صوتي» قرر الطفل ابن إدريس بعــد إقناع أبيه ووســاطة بعض الفضلاء أن يســافر إلى مكناس، ثُم إلى فاس للالتحاق بمدرســة المكفوفين طلبا للعلم والاستزادة منه.

كفاح ضرير

يصف السارد أياما حرجة تخللتْها ظروف الاعتصام واحتمال الجوع من أجل الكفيف وحقوقه الاجتماعية، مُحاطين هو ورفقته بتضحيات أساتذة وطنيين أكفاء، في طليعتهــم الأديب محمد حمــاد الصقلي، يزرعون فيهم الأمــل وصفحــات الأدب المشــرقة. وكان بطل الســيرة عنصرا فاعلا في الحركــة الاحتجاجية، ولم ييأس مــن مواصلة الكفاح لأجــل الحصول على حقه في التعليم وفي الوظيفة، بل يعالج الصدمات المتتالية التي يتلقاها بالصبر والتجلد، والتأسي بآلام الآخرين مــن الأدباء المشــهوري­ن، والاعتبار، والنقــد الذاتي، وعدم الاستســام لليأس والفشــل، بل المغامرة بعد تدبر وروية، غير أن ركوبها يصطدم بالتوبة إلى رضا الوالد وإصلاح علاقته به في كل مرة، وهو «رجلٌ أُمي أناني إلى حد بعيد، صعب الشــكيمة وعسير الرضا.» بعدمــا كلفته معاركة الأيــام نحو ثمانيــة أعوام من المعاناة، ودروبا مختلفة مــن التقلبات، وهو معتصم في معقل البــؤس والجوع، ينال شــهادة البكلوريا، ويلتحــق بكلية الآداب ظهــر المهراز في فــاس، التي اســتغرقت من عمره خمس ســنوات بمتاعبها المادية وصدماتها النفســية، وكللها ببحث فــي النقد القديم تحت إشراف أمجد الطرابلسي، ولم يكن ينتمي إلى أي حزب سياســي، أو إطار أيديولوجي بقدر انتمائه إلى الحركة النضالية للمكفوفين على الصعيد الوطني غير مساوم أو خائن.

بيد أن الحدث الشخصي الذي عاشه في هذه المرحلة المتطورة مــن العمر، هو شــعوره بانقلاب فكري؛ من متعاطف مع التوجه الفكري الذي كان يمثله «الاتحاد الوطنــي للقوات الشــعبية » حين أحــس بأنه خانهم وتخلى عنهم بعد إضراب الطلبة 1972، إلى باحث عن الخلاص من التراكمات الثقافية التي تشــبع بها حتى العشرينيات من عمره، ومن الإحســاس بالغربة في

وسط طلابي يزدريه ويكفره -

في نظــره - بالديــن، ثــم الإحســاس بالانفرادي­ــة عقب موت أبيه والانشــغا­ل بمصير أخويه الصغيرين. من أجل تبديد حيرته الفكرية، مأخوذا بالشــعر والأدب، وطموحه لكي يصير كاتبا، ســوف يقــرأ كتبا فكرية، ولاســيما تلك التــي تتعاطــى مع الإســام بمنظور اجتهادي جديد، ليكتشــف جهله للقرآن الذي يحمله في صدره.

تنغلق صفحات الســيرة على خبر سعيد؛ تعيينه أســتاذا للتعليم ثُم زواجه. لكنه يترك فجوات بيضاء فــي آخرها، ويســكت أساســا عن فترة نشــاطه في ميدان الدعوة الإســامية، وعن شهادته على ما جرى في تلك الأيام الحرون، كأنما لا يريد أن يســتثير رماد الرصــاص، ولا أن يجلــب عبئــا عليه وهو في ســن الشيخوخة، وعلى محيطه الأســري الذي استطالت شجرته في الحياة.

خواص بناء السيرة

يستغرق نص الســيرة الذاتية فترة زمنية مديدة؛ من اختطاف الجــدة خديجة )1901( إلى حين تخرجه من الجامعة )1975( وقد انتظمت أحداثها المتشــابك­ة ضمن ترتيــب كرونولوجي متعاقب، يكســر خطيته الصارمــة بطريقتين في الكتابة : «الاســتدخا­ل» حيث يتــم التركيز على «المعانــاة الباطنيــة» التي عاناها البطل أكثر من ظواهر الأحداث في صورها الخارجية،

أو «التنويع الأجناســي» للشــكل حيــث جرى إدماج بعض الأشــكال النثرية الموازية في نسيج السيرة من قصة قصيرة ومقــال تحليلي وخاطرة وتعليق )وقفة، من بعض المشــاهد، لمحة شــخصية عن ســي الطيب، بلوطة..( عدا استشهاده بالأبيات الشعرية السياقية التي كتبها وليدة لحظتها، أو كانت لغيره من الشعراء المعروفين، ممن ابتلي مثلــه بالعمى، أو عانى معاناته الوجودية )المعري، المتنبي، امرؤ القيس، الخنســاء، مطران، طرفة بــن العبد( بحيث يعيد دمجها وتأويلها داخل تجربته الخاصة.

وكثيرٌ من تلك الأحداث التاريخية المتخللة وسنوات الكفاح الشخصي، وثقها الســارد بتواريخها المحددة )ربيــع 1959 صيــف 1970 إضراب الطلبة، المســيرة الخضراء، موت الأب، ســنة التخرج الجامعي..( إلى جانب الشخصيات المرجعية التي التقاها، أو تأثــر بها فيما هــي تنتمي إلــى حقول ومشــارب مختلفة )علال الفاســي، محمد حمــاد الصقلي، جبران، إيليــا أبو ماضي، علي ســامي النشــار، أمجد الطرابلسي( وهــذا كله يؤكــد الإحالــة المرجعية لنوع السيرة الذاتية وفضائها الخارج نصي.

يســتقي الســارد أحداث الســيرة من مصدرين رئيســيين؛ ممــا كان يتلقفه من «ذاكرة العائلة»؛ سواء من أحاديث الجدة وهو طفل صغير، أو مــن أبيه إدريس وهو طالب جامعي، أو من خالــه علال بلبصير في سن المراهقة ثم الشباب، أو من أُمه وهو طفل ثم شــاب تجاوز العشرين، محاولا أن يبرئ ذمته، ويضفي الأمانة والصدق على أقوال الســيرة: «لكن من باب الأمانة أرسم مــا أســتطيع أن أتذكره، والــذي لم يغب عن مخيلتي بعــد كبري» أو يســتقيها من واقع تجاربه الشــخصية التي كابدها أولا بــأول، وإن كانت روايتها متشــحة بطابع «المعاناة الباطنيــة» والوعي الاحتجاجي المصدوم حينا، وكانــت حينا آخر مخترقة ببياضات: «وســأكتفي ببعض ما قد تجود به ذاكرتــي التي أصبحت ترزح تحت عبء الشيخوخة..» وعلى هذا الاعتبار نفهم دال )نافذة( في مكون العنوان.

إنــه باعتباره بطــل الســيرة والقائم بأعمال ســردها عن طريق ضميــر المتكلم، يريد أن يضفي الصدق على ما يحكيه بغير بطولة مزعومة، بل يســتدر تعاطف القارئ مع طفل، ثُم شــاب ضرير عانى الأمرين في غيــاب الحقــوق والولوجيات: «أســتعين أحيانا بســؤال بعض الراجلين الذين لم يكن معظمهم يجيبني...» وظل يواجه مصاعب الحياة بكبرياء وأنفــة: «لا أريد أن أظهر لــه، ولا لغيره فراغ أمعائي التي ستصبح على شــمس يومها الرابع وهي طاوية». وكان الموقف الذي تصدر عنه شــخصيته في أفعالها وقراراتها تتسم بالتهور والانفعال والمخاطرة لإثبات الــذات، وبين الاعتبــار والنقــد الذاتي، غير أنه كان فــي معظمه موقفا أخلاقيا يمــزج بين الإيمان الداخلي والتشبع بالثقافة الإسلامية، إلى حد أنه كان يعتقد في قرارة نفســه بأن الله يســتجيب له لقضاء بعض حوائجه، وبين الالتزام بهموم المكفوفين وكفاحه معهم للدفاع عن حقوقهم الاجتماعية حينا، ونقد القيم المتردية في المجتمع حينا آخــر: «وجدتني في مجتمع يصعب أن يميز أســوده من أبيضه...» «وقد رأيت من هؤلاء المنتمين إلى زاوية رجل صالح ما لم أكن أتوقعه من اللؤم وســوء الخلــق». وكان يلقي عبــر أحداث سيرته دروسا وحِكَما وعظات، لم ينِ يستخلصها من مواجهته ليل النفس وتناقضات الواقع، ومن الأخطاء التي حنكته، وهو ينقل صراعه المرير، والمثير للإعجاب كذلــك، من طور إلى آخر أكثر تعقيدا ومســؤولية؛ من الصراع مع زوجــة أبيه والمحيــط الاجتماعي الهازئ إلــى الصراع مع الدولة والقانــون، من أجل الإنصاف ورد الاعتبار لطبقة المكفوفين وحقوقهم الاجتماعية في مغرب )سنوات الرصاص(.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom