Al-Quds Al-Arabi

آباء مؤسسون... آباء طاردون

- ٭ كاتب عراقي

مــاذا نفعل حين يكون الآباءُ طغاة ومســتبدين؟ وهــل لنا نحن ـ الأولاد القاصرون- فرصة للخروج من لزوجة الطغيان، إلى برِّ اللغة واستعاراته­ا ومجازاتها وأقنعتها، وإلى حرية تُتيح لنا التمرد والتجاوز؟

ماذا ســنفعل بإرثهم القاسي، وأثرهم «المقدّس» وبكل الوصايا العالقة على أســتار القصيدة والقصــة والنقد والرواية والفكــر؟ فهل يحق لنا أن «نتنمر» بنوعٍ من الطمأنينة على تلك الأســتار، وعلى ســلطتهم الرمز، وأن نمارس حقنا في أبوة أخــرى، أو أن نقوم بـ«نتف لحية فكتور هوغو» كما قال رامبو ذات مرة؟ لكي نستأنف الحياة بأسئلة أخرى.

أحســب أن هذا الاعتراف الصاخــب يتطلب جرأة، ومســؤولية وقوة، ليس لأنه جزء من خطاب أخلاقي، بل لأنه جزءٌ من وعي إشــكالي ونقدي للزمن، والمثاقفة، ولمســؤولي­ة الكتابة، ولمسؤولية الموقف في إنتاج أسئلة لهــا راهنيتها وحميميتها وجدواها، وبالاتجاه الذي يجعل مفهوم التاريخ المكتــوب - قابلا للمراجعــة والإزاحة، مثلما يجعــل مفهوم النص صالحا للتمــرد علــى «وهــم الزمنية » كمــا قال أدونيــس. ما بين الإزاحــة و «وهم الزمنية» نحتاج إلى شــجاعة لمواجهة كثير من المنصات الُمشــيَّدة للطغيان الثقافــي، ولألواح التدوين الطاعنة عبرها، حيث وُضِع «قميص الســياب» و«راية البياتي» و«النبرة الخفيضة» لســعدي يوسف، وفحولة أدونيس، ومعاطف الآباء النقاد في سياق إطلاقي، بعيدا عن فكرة المتحف، والمكتبة والدرس والأثــر، وهي معطيات طبيعية وكينونية للجســد وللنص أيضا. وبقــدر ما أننــا نعيش فوبيا ســلطة المتحف، وأشــباح المكتبــة، والخوف اللاوعي من الأب الفرويدي، فإن خيار» التشيؤ الثقافي» قد يكون نوعا من الحل، بوصفه مقاربة اضطرارية لإعادة صياغة مفهومية وتداولية للزمن، وللأفكار والأسئلة، وجرّ الأشياء من التاريخ، إلى النص والنسق معا. هذا الخيــار ليس عقوقا، بل هو حق ثقافي، وحتى بيولوجي ينبغي ممارســته والاعتراف به، لاســيما وأنّ زمن الآباء الواقف تحــول إلى «زمن أيقوني» له شيفراته، وعلاماته وحرّاسه ومريدوه، وأن يافطاتهم الثقافية تحولت إلــى عتبات كبرى، أو ربما إلى ســرديات كبرى من الصعــب التجاوز على مخيالها الثقافي، أو البحث عن مســاحات للتلصص والتحاور والمغايرة، وحتــى للتخيّل المجاور، فهم يملكون الحق الرمزي والتاريخي في الطليعة وفــي الثــورة، وفي حق التجــاوز، وحق الرؤيــة، وهذه حقــوق غير قابلة للتصرّف، كما تقول القاعدة الفقهية.

الذاكرة والأيديولو­جيا

الخلط التعســفي ما بين الثقافي والسياســي قد يكــون لعنة، صنعتها الحكومات والأحزاب والأدلجات، لتكريس مفهوم عمومي للثورة وللطاعة وللمثقــف الموظــف، أو المثقــف الثائــر، أو حتــى المثقــف الصعلــوك، لأن السياسة العربية، بقدر ما أنتجت لنا طغاة وديكتاتوري­ين، فإنها أنتجتايضا- مســتبدين وآباء غلاظا في الثقافة، ظلوا يحملون رايات الفاتحين، ويلبســون قفاطين الفقهاء والكهنة، وربما يتمثلون بأقنعة أدوار «حراس البوابــات» القســاة. الخلــط الأيديولوج­ي والثــوري يمكــن أن يكون أكثر تأثيرا في الصناعــة الافتراضية للغلو الثقافي، ولتحويل المثقف إلى زعيم وعــرّاب وقائد ومناضل، وهي صفــات تتحول فيها الرمزية إلى ســلطة، وتجعل من المثقف مسكونا بأوهام صانع اليافطات والبالونات، والمغامر الذي يمتلك حقا «طابويا» يُجيز لــه الاحتفاظ بحدود الذاكرة، وبالحقوق العائلية للأفــكار والقصائد والحكايات، فضلا عن حــق «الملكية» بوصفه الُمبشّر الأول، والصوفي الأول، والضحية الأول..

لقد لعبت أيديولوجيا اليســار دورا غامضا فــي صناعة المثقف الفائق، الجدانوفي، أو التروتســك­وي، أو الجيفاروي، مثلمــا لعبت الأيديولوج­يا «القوميــة» دورهــا الإيهامــي في صناعــة المثقــف الوحدوي والرســالي والفدائي، فضلا عن ما لعبته أيديولوجيا «الملّة» من دور في صناعة المثقف الفقيــه، اللاهوتــي، وصولا إلى تمركــزه حول صورة المثقــف «الإرهابي» والتكفيري، وصولا إلى المثقف الانتحاري.. لهذه الصور المتعددة والغائرة آبــاء مؤسســون، يتشــاطرون مع آبــاء الأدب لعبــة الســيطرة والفتوى، والملكية، والشــرعنة، وصولا إلى خيــار امتلاك النص والســرير والرأي، وحتى خيــار الموت، وهذا ما جعــل تلك الصور تتحول إلى إشــاعة، وإلى أيقونــات، وإلى تابــوات لا يجوز انتهــاك ذاكرتها، ولا حتــى التعاطي مع فكرة وجودها العلاماتي على الحائط، أو في المكتبة، لأنّ الخرق ســيعني للكثيريــن ممن يعيشــون «فاشســتية الأب» تجــاوزا وهدما فــي القاعدة الفقهية، وفي الســياق التاريخــي، وتحريما لأيّ اجتهــاد يمنح الابن حق اســتئناف مشــروعه الثقافي لوحــده، وحق الخــروج إلى عــري الأمكنة والأسئلة والقضايا الكبرى.

أنا والسياب وأدونيس

التعرّف على الســياب، يعنــي التعرّف على تاريخية الخرق الشــعري، مثلمــا أن التعرّف على أدونيس تعني التعــرّف على الخرق الفكري، وعلى تاريخية القراءة للأســماء/ الأقنعة، وللتحولات التي هربت من علم الكلام إلى الأدب، أو هربت من الفلســفة إلى الشــعر والنقد وعلم الجمال واللغة، وهــو هروب عظيم، أســهم إلى حــدّ كبير فــي تقويض تاريــخ عريض من المركزيــا­ت الضاغطــة والقامعة، لكنها ســرعان ما تحوّلت إلــى مكوثات، وإلــى مواقف، وإلى أنمــاط حاكمة،، وإلــى فقهيات أخرى فــي علم كلام ليســت بعيدا عــن ذاكرة «الأشــعرية» الثقافيــة، إذ تحولــت القصيدة إلى «قميص يوســف، والفكرة إلى فتوى أو وصية، وظلــت لعبة رمي التاريخ بالحجــر قائمــة، بــدون أن يرمي أحدٌ ما علــى صورته المرآويــة، ولا حتى يُفسّــر قسوة الســلطة الثقافية العربية، التي مازالت تحكم بوصفها تملك ســوط الأب ومقعده الأبنوســي، وتراهن على بقاء صورتــه العائلية على حائط السلالة والأمة والملة والأيديولو­جيا والثورة.

« أنــا» لا تعني مركــزا ضديا، ولا حتى مقترحا لكوجيتــو آخر، بقدر ما تعنــي ســؤالا للمناورة، وللحــق في الســجال والجدل، وفــي البحث عن وجــهٍ آخر للحقيقــة. «أناي» واحدة، تعيش قلق الأســئلة، وقد تشــبه في ذلــك «أنوات» أخــرى، لها معاناة كبيــرة مع تاريخ الســطوة، والتهميش، ورغــم أنهــا متمردة، إلّا أنهــا كثيرا ما تُتهــم بالنزق، والعقوق، والســعي لوضــع قميص الســياب على حبل الغســيل، أو وضع مرايــا أدونيس في غرفــة الخلوة، وهــذه تُعدّ من القضايــا الكبرى، والمروقــا­ت الكبرى، التي سيتصدى لها أنثروبولوج­يون وعلماء نفس وعلماء لغة وفقه ونقد، لأنها ستُحسَــب خروجا عن القاعدة، وعلى ثنائية الأبــوة والبنوة، وتمردا على التأســيس! رغم أن المنطق يقول إن الإنسان هو الكائن الوحيد «الذي يملك مقبــرة» كما قال الطيــب بوعزة، والمقبرة الثقافية ليســت بعيدة عن تاريخ المقابر الأخرى، حيث تعني تحريضا على قانون الحياة، وإلى مراجعة كلّ الأشــياء، بما فيها «عيوب التأسيس» التي ســتخضع فيها لمقاربة التحوّل والإضافة، والتنــازع، والقبول بالجديد بوصفه قبــولا نقديا ومعرفيا، إذ ســتموت المعرفة التــي لا تقبل التجديد، وســيجد المعرفــي القديم بوجهه الخيميائــ­ي أمام خيــار المقبرة، أو خيــار القبول بالمراجعــ­ة وتجديد زوايا النظر للأفكار والعلامات والأنســاق والنصــوص، ولتجد «الأنا» فرصتها فــي الدخول إلى اللعبة، حيــث ضرورات التواصل والمشــارك­ة، والتفاعل وإعــادة النظر فــي تاريــخ «القمصــان» وتاريــخ «المرايا» بعيــدا عن وهم الحساســيا­ت و«الزمنية» التي ظلت عالقة بالذاكرة، وجعلت من «أصابع زليخا» محض عدوان، وليس عنوان رغبة، وأحسب أن الثانية هي الأصدّق وتمثيلا لسؤال خلود الجسد وتحولات الفكرة...

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom